زغردة الماء

عندما اقترب الموعد، وتفتَّحت شرايين عقله، وأضاء الدم في عروقه، وركضت خيول معرفته.. تهيأ للأمر، وأخذ عُدته حتى لا يضيع وقته سُدى. ها هو ربيع فكره يقترب، وخاض الأرض الحُبلى يوشك أن يطرق بابه بعنف، فعليه أن يهيئ شراشفه للمولود الجديد، قبل أن يفرَّ منه هارباً إلى زاوية صوفي أو حلقة فقيه.. فهو كما وصف نفسه دائماً: "هاوٍ وليس محترفاً"... فهو يترك نفسه على سجيتها، ويحمد الله أنه لم يجعله صحفياً يجري وراء الكلمة ليقبض عليها وهي زاهية طرية، قبل أن تداهمه المطبعة أو يدعسه الوقت، فيعريه أمام آلاف المنتظرين، وعشرات الموبخين، فيحترق في اليوم ألف مرة.

قال لصديقه (السواحري): أنا كراكب الأرجوحة في مدينة الملاهي.. ساعة أنا في القمة.. وأخرى في الحضيض، وثالثة على اليمين، ويقيناً عرفت الرابعة!! لكن ليس هذا هو المهم.. بل المهم: لماذا بقيت هكذا رغم بلوغي الستين؟! كالحصان البري أسْتَعْصِي على الترويض، وأرفض اللجام ولو كان من ذهب خالص..

هاهي ذي الإرهاصات الأولى تتوالى في داخله.. فعليه أن يسرع قبل أن تنفجر لحظة العشق الملتهبة، فتتبدد دون أن يستفيد منها..

اتصل بماهر فلم يجده.. مسافراً كان.. هو توأم السندباد.. كل يوم في واد.. حاملاً كتبه على ظهره.. لكن القدر الذي يُسيره وضع عجلات سيارته أمام المكتبة.. كيف؟ لا يدري!! .. نزل وأخذ كتاب "منشورات الدار" .. ومضى..

ما إن احتضنه مقعده الوثير في مكتبته حتى بدأ في معانقة صفحات الكتاب.. عنوانات كثيرة تمر أمام عينيه.. كلها تغريه بضمها إلى حريمه.. لكن العقل والجيب يتحدان في لحظة واحدة أمام العاطفة الجياشة، وكيف تصمد مهما كانت قوية؟! .. قالت أمه – غفر الله لها – محذرةً: "يا ولدي.. اثنان ضعيفان غلبا واحداً قوياً".. ويخرج من معركته بهدنة يلتقط فيها أنفاسه، واتفاق مصالحة باختيار الكتب الأهم للحظة التي تولد فيه الآن.. وليرجئ باقي الرغبات لعام آخر..

وكم كانت دهشته إذ قرأ اسمها في ثبت الكُتَّاب والمؤلفين.. لقد قالت له ذات مهاتفةٍ: إنها أديبة مثله!!.. واتفقا على أن يتبادلا مؤلفاتهما.. لكنها كشجرة الزيزفون كانت.. تُزهر.. ولا ينعقد زهرها ثمراً!!

فوجئ بأن لها في القائمة ثلاثة كتب.. دوَّنها في حافظته، ثم أدرجها في قائمة مشتريات العام... بل هذه الأيام..

عندما عاد ماهر.. وتواعدا على اللقاء.. كان الأدباء مادتهم التي يدورون حولها، ومع أن ماهراً يعرفه من قبل، إلا أنه يعجب لهذا الرجل.. ظاهره لا يوحي بباطنه.. كانت عينا ماهر تطفحان بالاستغراب وإنْ لزم لسانه محبسه حياءً ومجاملةً.. ضحك الرجل في داخله. ولأنه صاحب (نُكتة) قال له: أتدري ما قال صنوك السواحري عندما ضَبَطَتْنا دكتورة باحثة عراقية مُتلبسين بالحديث عن عبد الرحمن منيف؟! قالت عيناه ولم ينطلق لسانه: ماذا قال؟

قال السواحري: لا يخدعنَّك مظهر هذا الشيخ بهذا الزي (الديكور) الذي يُسيج به نفسه، والذي يتهمه بالبداوة قرينة السذاجة!! ففي إيهابه أديبٌ حر.. وناقد مُرّ.. فاتسعت عيناها مدى أرخى غطاء رأسها.. فأظهر نصف شعرها الأشقر، ومدتْ يدها إلى علبتها لتخرج منها سيجارة.. فقال لها شبيه البدوي: التدخين حرام!!.. فارتجفت أصابعها بأدب العلم وهيبة الموقف فأعادتها إلى مخبئها..

خرج تُشيعه أماني ماهر بتكرار الزيارة.. لكنه خرج وتحت عباءته أربعة أكياس من الكتب تكفيه قراءة لسنة.. كان المال عنده أهون من أن يقف في طريق حلم..

وكأم أرهقها الحنين لرضيعها فَدرَّ اللبن حتى أدمى حلمتيها.. وبلل كشْحَيها.. احتضن كُتبه إذ جلس إلى مقعده الوثير في مكتبته.

كان من كُتبها (الميناء).. مد إليه أنامله يتلمسه بحنان ووجل.. اكتشاف ريح الصحراء إذ تهب كان هدفه.. إذ بدأت عيناه تخطوان داخل الصفحات.. لكن سفينته قبل أن ترسو في (مينائها) أسكتتْ محركاتها.. وخطوها نحو الأرصفة انسياباً هادئاً كان.. لا تسمع إلى خفق الماء حول بطنها.. ومن بين أكثر من رصيف تسللت حتى وقفت إلى رصيف موسوم بـ (خطف).. وقد توزعت تحته أرقام..

أرقام عدة كانت تتراءى لعينيه ولا يراها.. كانت الكلمات قد بدأت تستولي على لُبه.. وتزغلل عينيه.. حتى وجد نفسه في لُجَّة رقم هَزَّه هزاً.. كان الرقم 24 مميزاً من بين الأرقام كلها.. استقرت السفينة أمامه.. وأرخت مرساتها ووقفت..

لكن هيهات للوجيب أن يتوقف!! وإذا الأمواج تعلو وتهبط، وتتفتح كل المساحات، وتشرئب بأعناقها الآهات التي طالما كبتتها رجاحة العقل.. والسفينة تتلاطم بها الأمواج أمام الرقم الزوجي، وتبدأ حرارة الماء في الارتفاع.. وينزل العرق من كل فم فُتح لاستقبال الأوجاع المدفونة من سنين..

ترتفع الحرارة...

ترتفع..

وفجأة .. تهب النار.. النار بداخلها اثنان يتضاغيان رغبة جهنمية.. النار تتقد.. تشتد.. والآهات تعلو.. تطول.. والأجساد العارية من تهذيبها تتجاوب مع النار حد الاحتراق .. لا تقاوم..

وجد نفسه من حيث لا يدري في لجة اللهب.. أمسوا ثلاثة.. نار تشتد.. وأمواج تعلو وتهبط بلا مدى.. والأجساد قد نَفَّرت النار عروقها، وأغمض الموت اللذيذ القادم من بعيد الأجفان، وترك للخيال العنان.. لا تجمح .. أرجوك.. ارجع إلى خَيّتك.. لا يفلت زمام جوادك.. لكنه عصر بقية الروح فيه.. وامتد.. واشتد.. الوجع الأحمر يحرق كل ما يقف في طريقه.. إلى الماء يفر.. اللهب ما زال يصابر.. يتحدى .. يُفجِّرُ الأنين المكابر.. هيا.. نغرف من الماء.. نطفئ هذا اللهب.. نوقع به في مكيدة لا نريد لها أن تنجح.. الماء يدفعه.. يدفعه .. يدفعه.

ويتراجع اللهب..

كحية لا ترحم تأرِزُ إلى جحرها..

يتراجع اللهب..

شيئاً فشيئاً.. ببطءٍ شديد لا يغيظ أحداً.. ويترك الجسدين عاريين من عنفهما بعد معركة لم يهزم فيها أحد.. ورماد المعركة مبعثر هنا وهناك.. وماء الحريق أريق في المكان!!

وهدأت العاصفة الهوجاء .. وسكن الموج الغاضب.. واستوت السفينة هادئة الأنفاس أمام الرقم العنيد، فوضع تحته خطاً يُعلِّمهُ به.. أعاد ظهره إلى الوراء، والتقط أنفاسه بعد هذا المشهد المروع بجسارة.. المُخدِّر حتى النفس الأخير..

وقرأت التاريخ.. وإذا هو 1980 كان.. وتمنى لو رجع إلى الوراء ثُلث قرن.. منذ ثلاثين عاماً أو يزيد سكن بيروت..؟ أين كانت هذه الشقية؟! الجريئة حد الحلم..

دخلت نفسه عليه.. وجدته في شرود أذهلها، لكنها بحنكة المطَّلِعة على الأمور كلها.. لا سيما الداخلية عميقة الغور منها.. سألته مُحاورةً:

- لماذا تتمنى لو رجع بك العمر إلى الوراء ثلث قرن؟

- لا يذهب فكرك بعيداً!!

- إذا كنت صادقاً، فاكشف أمنيتك إذن..

- لا عليكِ من أمنيتي.. لكنه سؤال يحيرني!!

- بلى حضرت.. والله حضرت.. وأكلت من أطايبها.. وشربت حتى امتلأت..

- فلماذا الرجوع إلى الوراء؟؟ المهزومون وحدهم ينظرون إلى الوراء..

- صدقيني ما قصدت ما يدور في رأسك.. الرجال.. النساء.. الكُتّاب.. الأدباء.. الكاتبات .. ومن تخطى السياج لم يملك القدرة على ارتداء ملابسه بعد ذلك.. كل ما هنالك أنني أردت منها شيئاً..

- ماذا تريد يا خبيث؟

- ها أنتِ عدتِ لسوء الظن.. يا نفسُ كفي عن الملام.. المعرفةَ أردتُ.. ليس سوى المعرفة.. سَمّهِ فضولاً إن شئتِ..

- هات ما عندك.. لا ترهقني!!

- شيءٌ نعجز عنه نحن أصحاب العضلات المفتولة بنزق، والعروق النافرة حد الوجع.. وتملكه امرأةٌ ضعيفة.. كنسمة هواء تداعب شارب رجل.. لكن لا تقدر على وصفه إلى أديبة كاتبة تملك شحنة جبارة من المشاعر.. وقدرة فائقة على استبطان الأحاسيس.. وجرأة على القول..

- دوختني.. لماذا تهزني كل هذا الهز كأني أرجوحة؟! قُل ما عندك.. ولنعد إلى أمنيتك لو رجعت إلى الوراء ثلث قرن..

- كنتُ أريد أن أسألها: هل تقرأ ابنتك ما تكتبين، أم توجهينه للرجال المراهقين؟! بعدما تنتهي الوليمة.. وقد أكلتْ حد التُّخمة.. وشربتْ حد الإغماء.. كيف إحساسها إذ يزغرد في جوفها الماء؟!

وسوم: العدد 688