ذكرى الضيف المؤذي

ليس المهم من أين جاء؟ ولا كيف جاء؟ لكن المهم أنه أصبح في أرضي، واستقر فيها، أراه صباح مساء، والتغافل عنه لا يحل المشكلة، ولا يوقف هذا الهدر في وقتي وطاقتي ومالي، ولا يجعلني أستريح في يقظتي ومنامي، فأنا دائم التفكير فيه، ولكثرة ما أعيتني الحيلة معه؛ بت أشعر بالشلل والعجز التامين.

كان من عادتي - وما زلت- إذا أسفر الصباحُ وشقشق العصفور، وافترش الأرضَ النُّورُ، ولم تستعر الشمسُ بعدُ؛ أخرج إلى حديقة بيتي، أُلَيِّنُ عضلات ساقيَّ من جهة، وأتفقد مزروعاتي من جهة أخرى، فأنا مولع بالزراعة، لي فيها تجارب يسعدني نجاحها وإن لم تحقق مردوداً اقتصادياً ذا بال، فحسبي الإحساس بالانتشاء لتحقيق رغبة تجول في النفس، أو فكرة طرأت على البالِ، أجاهدُ ألا تكون من المحالِ، وحسبي أني أحاولُ، فكم من زهرةٍ استنبتُّها من بذرة، وكم من شجرة وارفة استلهمتها من عود، وكم من أحواض مُرَعْرَعَةٍ كانت بدايتها شتلة ذابلة، أو خُصْلةٍ من عود استحوذ على إعجابي.. هوايةٌ أستروح بها من حَرِّ الكتابة، وضغط البحث، وحُرقة محاورة الأفكار، والهروب من نكد الأولاد، وصراع الأجيال.

وأنا أتجول في الحديقة، أُعدِّل نبتةً أمالتها الريح، أو أرفع ورقةً حطَّتْ على حَوْضِ الشيح، أو أنجد زهرة من دودة تضلعت من أورافها فهي على وشك الموت، أو أكر على حشرةٍ غزت بجموعها شجرةً ناءت بحملها.. رأيت كَوْمَةً من التراب الطري البكر، قد اسُتْخرجتْ من باطن الأرض، فهي تعلن عن نفسها ببهجة لونها..

علاني الفرح، واستخفتني المفاجأة، فحملتُ البُشْرَى لزوجتي وأولادي، فها هو ذا قنفذ مسالم جاء إلى حديقتنا.. وتذكرتُ أنني أمسكتُ بواحدٍ منها ذات غَلَسٍ عند رجوعي من صلاة الفجر في الحقل المجاور لبيتي، ولعبَ به أولادي.. وراجعوا معلوماتهم المدرسية على وسيلة حيَّة، وأخذوا يطالبونه بتصديق كُلِّ ما اختزنته ذاكراتُهم منها: هو يتكور عند الخوف.. يسبح في الماء.. يتلمس طريقه بقوة حاسة الشم.. جلده مغطى بإبر شوكية.. هل يجوز أكل لحمه أم لا؟.. وما طعمه؟.. وهل يُسمن أو يُغْني من جوع؟

أما وقد كبر أولادي.. وجاء أحفادي.. فهذه فرصة نادرة لحفيدتي « بُشْرى » لترى القنفذ عن كثب.. صحيح أنها ستخاف منه في البداية.. وسنحاول تجرأتها عليه.. لكن ستظل إبره التي تغطي جلده مثار خوفها وحذرها.. لا بأس.. ستراقبه من بعيد.. وستحاوره.. وربما تسبه وتشتمه لأنه لا ينصاع لأوامرها فيأكل كلَّ ما ترمي به إليه من أطيب غذائها وفاكهتها وحلوائها.. وسنجاريها في تصديق تخيلاتها.. ونشاركها في افتعال ضحكات موافقة لضحكاتها.. وسيظل محور اهتمامها، ومصدر أخبارها، وموضوع حكاياتها زمناً ليس بالقصير.. وربما تحملها ذاكرتُها إلى زمن شيخوختها..

المهم أني سعدتُ.. ولم أعترض على وجوده في حديقتي، وتركت الأمور تسير على طبيعتها، وتأخذ الحياة دورتها..

وفي اليوم التالي رأيت كومة أخرى من التراب، فعلاني الاستغراب، هل هو واحد أم أكثر؟ ويا ترى هل هما ذكر وأنثى؟ أم ذكران؟ أم انثيان؟ وتمنى القلب أن يكونا ذكراً وأنثى، فيتوالدا عندي، ويقومان بمهمة تنظيف الحَوْشِ من الحشرات الضارة..

بَيْدَ أني في اليوم التالي اكتشفت كَوْمَتين أخريين.. علتني الدهشة، وبدأ الفرح ينسحب من حياتي عندما اكتشفت بعض النباتات القريبة قد ذَبُـلَتْ، وبعض حبات البصل النادرة التي أورقت قد غارت أوراقها، ولم يبق إلا نُقْرة صغيرة في التراب توحي بأنها سحبت إلى الأسفل.. وبدأت هذه الظاهرة تزداد.. وخشيتي تزداد.. ولما لم أر القنفذ المرتقب بدأت الظنون تعجنُني، والشكوك تساورني.. إذن هو فأر كبير.. لا يظهر بالنهار، ثم إن الفئران، والجرذان الكبيرة منها تحديداً تحب أكل البصل، وقد كنا نُعِدُّه كمادة جاذبة له، فنضع عليها السموم لقتله..

اتصلت بقسم القوارض في البلدية، فهبوا لنجدتنا، ووزعوا السموم في كل أرجاء الحديقة، وكلما أشارت أُصبعي إلى مكان؛ سارعوا لنصب الكمين فيه، وزودوني بنصائحهم: لا تسقى الماء ثلاثة أيام.. لا تقترب من السموم حيوانات أو طيور داجنة.. إياك واقتراب الأطفال..

أعلنت حالة الطوارئ، واستنفرت كل طاقاتي، وأكثرتُ من دَوْرِيَّاتي، فبعد أن كانت واحدة في الصباح الباكر، أضحت أربعاً، حاملاً في يديَّ كل سلاح يمكنني من اعتقال هذا الضيف الثقيل، أو قتله إن أعيتني الحيلة.

ومضت الأيام الثلاثة ثقيلة بطيئة، ولم يظهر له أثر، ولم ينقص الطُّعْم الذي وزعناه في أرجاء الحديقة، وزادت أكوام التراب وزادت، والمزروعات المعتدى عليها تجاوزت حَدَ الصَّبْرِ، وقد أمضَّني فَقْدُ بعض حبات بصل الورود النادرة، وأنا في قمة الغيظ منه قررت المبادرة بالهجوم عليه، فالهجوم خير وسيلة للقضاء على الخصم، وأما انتظار خروجه، والاستسلام لِـمَزَاجِهِ، فلن يزيدنا إلا خسارة على خسارة وهَمَّاً متصلاً.

وانتظرت يوم دَوْرِنَا في ضخ الماء، وقدم الماء عنيفاً، وفتحت الخرطوم في جُحْرِهِ، واندفع الماء بقوة الضغط كالشلال، وقلت في نفسي: الآن يخرج مبلولاً مهزوماً، وقد غزوته في عُقْرِ جُحره، فتهيأتُ له بسكين وعصا غليظةٍ.. وانتظرتُ بُحنق عظيم أن يُخرجَهُ طوفان الماء من مخبئه..

ولكنني أوقفت محاولتي وألغيت خططي لما رأيت الماء يذهب هدراً، ولا أرى له أثراً كأنني أصبه في بالوعة، وأُسقط في يدي.. الماء يهدر ساعة أو أكثر ولا نتيجة تُذكر!!

عاودت الاتصال بأهل الخبرة والمشورة.. مهندسي وزارة الزراعة.. خبيري القوارض في البلدية.. وبالأصدقاء من دارسي العلوم والآفات.. وتعددت الإفادات: فهذا يقول: إنه فأر، وآخر يقول: بل قنفذ، وثالث يقول: خُلُند، ورابع يقول...، فوقعت في حَيْرة الترجيح، ولم أجد بداً من الرجوع إلى المعاجم والقواميس والموسوعات العلمية.. درست خصائص الكائنات الحية المشابهة، تلك التي تعيش في باطن الأرض في أنفاق تحفرها، ومزروعات تدمرها.. وأخذت أوازن بينها، وأرجح بين أقوالها، وأقارب بين صفاتها مطبقاً ذلك على ملاحظاتي ومشاهداتي، حتى استقر اليقين عندي أنه (خُلُنْد) بضيق عينيه التي لا لزوم لها تحت الأرض، وصغر أذنيه، وقوة فَكَيّه التي تطحن جذور أعتى الأشجار، وصلابة ذراعيه التي تمكنه من الحفر والاختفاء خلال ثوان إذا فاجأه خطر. 

وبدأتُ أشعر بخطورة الموقف، وعِظَم الفادحة، وقد مضى على معاناتي معه أكثر من أربعة أشهر.. وتسامع الجيران بمشكلتي، وهب كل منهم بنصيحته التي ما بعدها نصيحة، حتى قال لي أحدهم: « على الخبير سقطت » لقد قتلت منها العشرات، ولا أسهل من ذلك!!، كل ما في الأمر أن تأتي إلى آخر جحر حفره، أو كومة تراب تُظهر لك ذلك، فتزيل التراب برفق، حتى يصبح سطح الجحر رقيقاً، ثم أكمن له بفأس، فإذا أظل برأسه فاضربها بقوة خلفه، فتسد عليه طريق الانسحاب، ثم اقتله، وإذا أردتَ اسْمَحْ لي أن أقوم بهذه المهمة بنفسي. لكنني استبعدتُ هذا الحلّ، فقد نصحني الشيخ فتحي بمثل هذا من قبل، مستعيضاً عن الفأس بخنجر.

ولكم كَمِنْتُ له كاتماً أنفاسي الساعة والساعتين، فكان هذا الخبيث لا يخرج البته، فكأنه يشم رائحتي، أو يسمع تردد أنفاسي، فإذا يئست- وقد تصلب ظهري- وانصرفت، وعدت في جولتي التالية رأيت كَوْماً جديداً، أحس بحركة التراب فأوقن أنه أسفل الكوم، لكن عشرات المحاولات في تبديد الكوم بضربة واحدة من فأس لم تُجْدِ شيئاً.

اقتربت معاناتي من شهرها السادس، وأنا في حيرة ما بعدها حيرة، وقد كاد أن يقضي على مزروعاتي كلها، ولم يبق شبر من أرضي إلا حفر تحته، وكُثرتْ أكوام التراب التي تدل على كثرة ما لأنفاقهِ من أبواب، حتى بِتُّ أشعر أن أرضي كلها مُخْـتَـرَقةٌ.. ولما ضاق صدري، وأعيتني الحيلة؛ اتصلت هاتفياً بأستاذ مادة القوارض في كلية الزراعة فهو أستاذ الأساتيذ، ومقدم أهل الاختصاص في هذا المجال.. وشرحت له معاناتي، وأوقفته على إمكاناتي، وضياع مزروعاتي، وهدر أوقاتي..  

توجع لحالي، وأنا أسمع تَمَصْمُصَ شفتيه من طرف السماعة الآخر، فقال لي بخبرة الأستاذ، وحنكة المطلع على آخر ما اسْتُحْدَث من أساليب: هناك أقراص مادة قاتلة، إذا وضعت الأقراص في مدخل آخر جحر له، ثم صببت عليها الماء، وأغلقت الجحر إغلاقاً محكماً بسرعة متناهية، فإن هذه الأقراص تبعث غازات سامة تملأ مسارب الأنفاق التي حفرها ويهرب فيها، وهذه الغازات تشل أعصابه وتقتله.

فرحت.. وقلت أجرب آخر تقنيات القرن الواحد والعشرين، بعد أن فشت محاولات الماء والفأس والسكين، فأرسلت ابني فاشترى الأقراص المعنية من محلات المواد الزراعية، وجهزت نفسي، ووضعت الأقراص كما نصح الخبير الأستاذ، بعد أن أخذت احتياطاتي لنفسي، فكممت أنفي، وسترتُ عينيَّ، وغَلَّفْتُ كفيَّ، وأتممت مهمتي بنجاح.. ومضى يوم والثاني والثالث حتى أتمتْ خمسة عشر يوماً دون أن أرى جديداً من أكوام التراب، فأيقنتُ بالفلاح... وقد كان ما توقع الأستاذ، فاسترحتُ من هذا الكابوس الثقيل، والشر المستطير، ورغم مضي أكثر من سنة ونصف على قتله، إلا أنني ما زلت أعاني من أنفاقه التي تسرق الماء مني، فكل يوم أكتشف نفقاً جديداً يذكرني به*

وسوم: العدد 695