ذكريات
جلست والدتي تتحدث بأسلوبها المليء بالتشويق والذكريات الحنونة الدافئة مع صديقة لها عن الأبناء ومقدار غلاتهم في القلوب مهما طال الزمن وظهر الشيب وانحنى الظهر ، قالت صديقتها :
ـ ألا تذكرين كيف كنت ستتبرعين بآخر أولادك لأخيك (عبدالوهاب) الذي لم يرزق بولد ..
ضحكت أمي ضحكة كلها رقة وعطف وبدأت تسرد قصتها مع صغيرتها وخالها قالت :
ـ كان لي من البنات ثلاث ومن الصبيان ثلاثة ، فحمدت الله وشكرته على النعمة ، وقررت بعد موافقة والدهم على أن لا أنجب إلا أن يشاء الله .. وخاصة كما تعلمين أن زوجي معروف بكرمه وحبه لأهله وأهلي وللناس فلا أكاد أنتهي من طعام وليمة للأهل والأصحاب حتى تأتيني الوليمة التي تليها ، وأنا عصبية وهو غاية في الهدوء ويعشق الأطفال ولا يرضى أن يسمع لهم صوت بكاء أو حتى يشعر أي شعور بحزنهم أو انشغالي عنهم .. وتأتي الصدمة غير المتوقعة وأكتشف أني حامل وفي الشهر الثالث أيضاً .. عندها أسقط في يدي فلم أدر ما أفعل ؟؟ حرت في أمري فلم أجد إلا أختي أشكو إليها همي وأستشيرها فيما إن كان يحل لي أن أجهض ما في بطني .. وعندما كنت عندها دخل أخي (عبدالوهاب) رحمه الله مع زوجته لزيارة أختي ولما سمع كلامي غضب أشد الغضب وقال :
ـ الناس بحسرة طفل .. والله أدفع ثروتي كلها مقابل طفل يوحد الله ويحمل كبرتي ويترحم علي بعد موتي .. والله ولو كان طفلاً مشلولاً أدفع كل ما أملك لأجل كلمة بابا ..
هنا التقطت (سلوى) زوجته دمعة حرّى بيدها وقالت بحزن :
ـ حرام عليك أن ترفسي النعمة .. اسمعي اتركي الجنين في بطنك ولما تحين ساعة الولادة أرسلي في طلبنا وبمجرد أن يرى الطفل نور الدنيا نأخذه منك ونربيه ..
قال أخي سعيداً :
ـ صدقت يا سلوى وهكذا يكون الله قد أعطاني الطفل الذي حرمت منه كل تلك السنين ..
وتمضي الأشهر طويلة ثقيلة علي والجنين يتخبط في بطني في كل يوم ، وعندما أتعب أتذكر أنها كلها أيام وأنسى هذا التعب فألد الطفل ويأخذه أخي ويسعد به .. أرتاح أنا ويسعد أخي .. وفي الموعد بدأت الطلقات وآلام المخاض تبشر بقرب مجيء الطفل للحياة وبراحتي من الحمل ومتاعبه ..
وبعد ساعات من التعب تمت الولادة بفضل الله بسهولة ويسر .. وناولتني (أم محمود) رحمة الله عليها طفلة وجهها كالبدر .. كانت صغيرة جداً جداً ونحيلة لكنها في عيني أجمل ما خلق ربي .. ضممتها إلى صدري بحب وكأنها الطفلة الأولى في حياتي ، نسيت كل أولادي وفرحت بها فرحاً ما عرفت سببه ..
فجأة دخل أخي (عبدالوهاب) وزوجته بيتنا فقد أخبرته ابنتي الكبرى أني قد وضعت والحمد لله فجاء ليطمئن ويبارك ..
جلست (سلوى) بقربي وسألتني :
ـ كيف حالك يا أختي ؟ وكيف العروس الصغيرة ؟
حينها شعرت بضربة سيف قاطع تنزل على قلبي الذي فجأة صار في حالة حب وحنية لا نظير لها .. وامتقع وجهي واصفر محياي ، وبدأ قلبي يخفق بشدة وهلع .. قلت لها :
ـ أرجوكم لا تأخذوا الصغيرة اليوم أرجوكم دعوها اليوم فقط أضمها وأشبع منها وأودعها ..
قال أخي ممازحاً :
ـ الاتفاق اتفاق .. لموا يا بنات أغراض أختكم لنأخذها معنا تعيش عندنا ..
أمسكت بيد (سلوى) وأنا أتوسل لها :
ـ أرجوكم فقط اليوم ..
قالت (سلوى) :
ـ الله يهنيك ببنتك وبأولادك لا يمكن أن نأخذها ولو أنت توسلت إلينا .. كنا نمزح يا أختي وأنت صدقت المزحة ..
هربت دمعة حنونة من عيني أمي التي بلغت السبعين من عمرها وظهر التأثر على محياها وحركات جسدها وكأن القصة تحصل الآن ولم يمر عليها أكثر من أربعين عاماً ..
وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ...
وسوم: العدد 695