رحلتي العجيبة إلى قلب المي!
صلاح حسن رشيد /مصر
زارني طيفها الخلاَّبُ قُبيل الفجر؛ فأخبرني أنني لن أستطيعَ القيام بهذه الرحلة العجيبة!
وتمنَّى ليَ السلامة! ولأول وهلةٍ خِلتُ نفسي قادراً على تحدي طيفها، والبدء فعلياً في مُقَدِّمات الرحلة الميمونة!
وعلى وجه السرعة، أحضرتُ الزَّادُ، والشَّرابَ، والوقود؛ فلمّا نويتُ أخذَ قسطٍ من الراحة؛ ظهر لي طيفها الجميل؛ فقال لي: نسيتَ شيئاً جوهرياً .. يا هذا!
قلتُ: وما هو؟!
أجاب بحزمٍ: الارتحال إلي(المي) هانم يتطلَّبُ استعداداً خاصّاً؛ غيرَ ما فكَّرتَ يا رجل!
فتذكَّرتُ كلامَ شيخي الجليل(عبد الرحمن) الذي أزمع زيارةَ قلب المي من قبل؛ برغم ما يعتور الطريق من مشكلاتٍ، وخسائر، في الأرواح، والأموال! لكنه- وهو من المُقَرَّبين- ما استطاع إلى قلبها سبيلاً!
فقلتُ في نفسي: فلابد- إذن- من البدء في صيام خواصِّ خواص الخواص، لمدة شهرٍ على الأقل! فأتعبتُ جسدي من قلَّة الزاد، وأسهرتُ ليلي في القيام، والطاعة! فنمتُ تحت شجرةٍ من يقطين، وعشتُ على زيت زيتون المحبَّةِ فقط؛ فهو غذاءُ الأولياء الأصفياء، والمحبِّين الأتقياء!
وفي اليوم الثلاثين، رأيتُ في منامي(ذا القرنَين) وهو يُبَشِّرني بالموافقة على بدئي للرحلة، وأعطاني لفافةً تشعُّ منها الأنوار، وتخطف رائحتها الزكية العقول!
ففتحتها؛ فوجدتُ فيها: زجاجةً من مسك الجَنَّة، وزجاجةً من ماءِ الحكمة، وزجاجةً من ماءِ الحياة!
فقمتُ على عجلٍ؛ فاغتسلتُ بماء الحكمة، وتوضّأتُ بمسك الجَنَّة، وشربتُ من ماء الحياة!
فتغيَّر شكلي، وكلامي، وزِدْتُ بسطةً في العلم والجسم، مع وسامةٍ تخطفُ أنظار الأبكار! حتى الدابة التي جهَّزتها للرحلة، أصبحتْ خَلْقاً آخر!
وكانت ساعةُ الصِّفْر هي لحظة استعداد المي للخلود للراحة، بعد صلاة فجر (ليلة القدر)! فالمي بعد فراغها من الصلاة، تأخذ نَفَساً عميقاً، وشهيقاً مُحَبّباً، يكفي لإنعاش البشرية جميعاً!
فاستعددتُ، وعندما تسابَقَ الهواءُ النَّقيُّ التَّقيُّ الآتي من دوحات المي للدخول، دخلتُ معه مُسرِعاً؛ فشعرتُ بلذَّةٍ إيمانيةٍ، دغدغتْ كياني، وجعلتني ملَكاً من الملائكة!
وفي طريقي إلى قلبها، رأيتُ عجباً، حوريّاتٍ يقمن بحماية القلب، وتغذيته بالسلسبيل!
بل الأعجب حقّاً، كان قيامَ(الحواريين) من أتباع السيد المسيح-عليه السلام-على رعاية قلبها روحياً ووجدانياً!
ولمّا اقتربت من منتصف الطريق؛ أوقفني(ذو القرنَين) قائلاً: مَن أنتَ؟! وكيف جئتَ إلى هنا؟!
قلتُ: مهاجرٌ إلى قلب المي!
فقال: واهمٌ أنتَ!
يا بُنَيَّ: لا تُخاطِرْ بحياتك، فكم مِن مُخاطِرٍ جرئٍ مثلك، لم تُفتحْ له أبوابُ قلب المي! بل، خَسِرَ الدنيا والآخرة!
يا بُنَيَّ: إنَّ عدد الصَّرعى، والهلكى، أكثرُ بكثيرٍ من عدد الواصلين!
يا بُنَيَّ: لا تُتْعِبْ نفسكَ؛ فأنا فشلتُ في اجتياز امتحانات القَبُول وكشف الهيئة .. فكيف بك يا مسكين!
يا بُنَيَّ: إنَّ(الخضرَ، ولقمان الحكيم، والزُّليخا، وبلقيس، وأهل الكهف، والحواريين، وأبا ذرٍّ الغفاري، والحلاّج، والسَّهروردي، ومحمد عبده، والشعراوي، وعبد الحليم محمود) هم ممَّن لم يصلوا إلى قلب المي!
فقلتُ له: شكراً على النصيحة؛ لكنَّ الهدهدَ الضعيف أحاط بما لم يُحِطْ به النبيُّ العظيمُ سليمانُ-عليه السلام! وإنَّ العبد الصالح(الخضر) علَّم موسى الكليم-عليه السلام- ما جعله يستعجب كلَّ العجب! وإنني أقلُّ ممَّن ذكرتَ قدراً ومكانةً، لكنني، أحلمُ بهذه الرحلة منذ طفولتي! وقد عرفتُ، لماذا هاجر إليها المهاجرون؟! ولماذا أخفق الآخرون؟!
فردَّ ذو القرنين باستغرابٍ شديد: كيف؟!
قلت: يا هذا، لن أعطيك مفتاحَ قلب المي!
فزاد تعجُّبه، فتساءل: وهل له من مفتاح؟!
قلتُ: نعم!
فقال: أرجوك، أخبرني: ما هو؟!
فقلت، وأنا أزهو بانتصاري عليه: لقد عاهدتُها في رؤايَ على عدم كشف السِّر!
وتركتُه؛ لأكُمِل رحلتي اللذيذة!
وعلى قلب المي، طَرَقتُ الباب: فقيل لي: من الطّارق؟!
فأجبت: مهاجرٌ إلى قلب المي!
قيل: وما مفتاح القلب؟!
قلتُ: الجسارة مع الخسارة! والوصول مع الفشل! والفلاح مع الإخفاق! والمتعة مع النقمة، والنعيم مع الجحيم!
قيل: منذ متى، وأنتَ تستعدُّ لها؟!
قلتُ: منذ خُلق آدم-عليه السلام!
قيل: وما زادك؟!
قلتُ: عدم الأكل والشراب! وعدم الكلام، والتفنُّن في الغرام!
قيل: وهل للحب من آية؟!
قلتُ: أن يزهدَ فيَّ محبوبي وقتَ قدومي، وأنْ يشتاق إليَّ عند غيابي! وألّا يراني عندما يراني!
قيل لي: هو أنتَ المقصود! هو أنتَ المنتظر! فمنذ مليون عامٍ، ونحن نتعجَّلُ قدومك!
ادخل، أيها الفائز العظيم!
ففتحوا لي الباب المطرَّز بالذهب والفضة؛ فرأيتُ ما عجز لساني عن وصفه وتخيُّله! إذْ رأيتُ في قلب المي بياضاً ليس له شبيهٌ في الوجود! ورأيتُ أنهاراً أنقى، وأعذب من ماء نهر النيل! ورأيتُ خُضرةً، لا هي خضرةُ الدنيا، بل، هي خضرةٌ سماوية! ورأيتُ وجوهاً ضاحكةً مستبشرةً! ورأيتُ.. ورأيتُ..!
فسألتُ مُرافقي من الملائكة: مَن هؤلاءِ؟!
أجاب: سيِّدي، هم عبيدُ المي!
فنظرتُ إلى وجوههم النورانية؛ فرأيتُ وجهَ(ابنِ الفارض)، ووجه(البوصيري)، ووجه(أحمد شوقي)، ووجه(ابن الرومي)، ووجه(نزار قبّاني)!
فتعجَّبتُ من وجود نزار قباني، شاعر الغزل، في هذا المكان الرفيع!
ولمّا سألتُ مرافقي، قال: لأنه أخلص في حُبِّه لزوجه(بلقيس)، فعاش ومات، وهو مُوَحِّدٌ في عشقه!
وعلى البعد، رأيتُ وجوهاً كبيرة، مزهوَّةً بنفسها وبعملها، عليها سحائب البركة، وتلفُّها ركائب اليقين!
فسألتُ على الفور: ومن هؤلاء؟!
فقال: هؤلاءِ، هم العاشقون العازفون! هؤلاء هم حُجّاب قلب المي!
ولمّا اقتربتُ أكثر، وجدت من بينهم(مجنون ليلى، والعقاد، والمتنبي، ومحمد عبده، وجوته، وتولستوي، وبرناردشو، ورامبو، وجبران، والمجنون الجديد)!
فسألته: وكيف الدخول إلى فؤاد المي إذن؟! فلقد اشتقتُ إليه كثيراً، وإلى النوم في حجراته المُخَمَّليَّة الزاهية! وإلى الاطلاع على أسراره، وحكاياته، وإلى أنْ اكتبَ فيه أشعاري، وأنفاسي!
فتغيَّر وجهُ مرافقي، وتلعثمَ لسانُه، واسودَّتْ سِحنته، وانتفضَ من مكانه، وأخذ يُهَدِّد، ويتوعَّد، ونظر إلىَّ نظراتٍ كلها رعبٌ ورهبةٌ! ثمَّ، استلَّ سيفه الفضيَّ المصقول، وقال بحزمٍ: قبل أن أضربَ عنقك، هل لكَ من حاجةٍ أخيرةٍ!
فقلتُ، وأنا لا أعرف السبب: ولماذا تقتلني؟
فقال، بصوتٍ جهيرٍ، يُصِمُّ الآذان: لقد سألتَ عن الممنوع المرغوب؛ فاجتزتَ حدودك، وتخطَّيتَ درجتك! وفكَّرتَ فيمن لا تحلُّ لك! يا هذا، ما سألتَ عنه، لم يجرؤ أحدٌ من قبل على مجرد التفكير فيه!
فقلتُ، وكلي خوفٌ وخشية: فمَن أنتَ؟!
فقال: أنا سيّافُ المي!
وأنا مأمورٌ بالتخلُّص منك!
وبالفعل، أطار رأسي بضربةٍ واحدةٍ!
فطار قلبي؛ فاحتضن قلب المي!
وظل ينزف حُبَّاً حتى رقَّتْ المي لحاله، واشتاقت أخيراً لكلامه!
فظلت تزروني كل يوم، وتغسل بدموعها تراب قبري، وتملأ رمسي بجنات أُنسي!
حتى كانت النهاية السعيدة؛ فعند احتضارها .. اختارت قبرها بجواري قبري!
فملأت آخرتي حبوراً؛ كما ملأت دنيايَ سروراً!