زلة لسان
بدا كأنما غادره حسه باللحظة وبالمكان وبالاثنين الواقفين صامتين قربه ! وتنفس في مشقة ، وقال : زلة لسان .
والتفت إلى صديقه أحمد الذي كان يرافقه ، وقال : ما كان لك أن تقول ما قلت !
وخاطب صديقه الآخر الذي التقياه في الطريق : زلة لسان يا سعيد .
فرد سعيد : هذه إهانة ، وسوء أدب .
والتهب التوتر ، وخاف عبد الله من اشتباك الاثنين في أية ثانية ، فجذب سعيد من يده ، وابتعد به خطوات ، وهمس : هو هكذا . لا يزن كلماته . تعبت معه .
فقال سعيد رامقا أحمد بحنق واحتقار : سأعرف كيف آخذ حقي من هذا الوقح . الإكرام لك .
_ أنت عاقل .
_ سيندم .
وانصرف حاملا مشترياته من الخضراوات والفواكه وغيرها ، ورجع عبد الله إلى أحمد ، وسأله مسفها مزدريا : كم مرة نصحت لك أن تزن كلامك ؟!
_ أنت قلت عنها زلة ، وهي زلة فعلا .
_ وماذا كنت سأقول ؟! أردت تهدئته . أقدمه لك فتقذفه : " وزار القبور أبو مالك * فأصبح ألأم زوارها " ؟!
_ ولماذا لم تكتفِ بتقديمه ب سعيد جمال ؟ لماذا ذكرت " أبو مالك " ؟ !
_ هذه الكنية تسره . رزقه الله مالك بعد تسع سنوات من زواجه . نبهتك من سنين إلى أنك لا تزن كلامك . من كل دراستك للأدب العربي لم تحفظ إلا ما وافق طبعك من أبيات الهجاء . لم يرقق الشعر ذوقك .
_ لست أحسن من جرير .
_ وسعيد جمال لا يستأهل أن تهجوه مثلما هجا الأخطل جرير . نعيت الرجل قبل موته ونعته بأنه ألأم ميت . من يقبل هذا لنفسه ؟! أظنه لن يسكت على ما قلت .
فتوقف أحمد عن المشي ، ويبدو أنه كان في حاجة للتوقف لسمنته وسرعة لهثته ، وقال متهازيا ، واضعا طرفي سبابته وإبهامه على جبهته ، وفاردا بقية أصابعه مثل جناحي طائر : ماذا سيفعل ؟! يقطع رأسي ؟! ليقطعه ! لا تكثر كلامك معي ! ربنا خلقني أكره كثرة الكلام . هو عقله صغير . لا يعرف المزاح .
وتابع الاثنان المشي ، وتمتم عبد الله لنفسه : رحم الله من قال : " وعاشر الناس بخلقٍ رِضىاً * ودارِ من طاش ومن لم يطش " .
***
يستعيد عبد الله المشاهد الموصوفة في خياله ، في دربه إلى ديوان الحاج سلمان أبو عطية . نفذ سعيد ، أبو مالك ، توعده بأسلوب لم يتوقعه عبد الله ولا أحمد ، أسلوب القضاء العشائري الذي يؤكد أننا مازلنا اجتماعيا وسياسيا في صحراء القبلية ، بعيدين بعدا متراميا عن نظام الاجتماع المدني مشبهين بقية بني دمنا وثقافتنا من العرب . شكا سعيد أحمد إلى الحاج سلمان ، وطلب منه مقاضاته في ديوانه ليرد له اعتباره المنجرح المهان مثلما قال بالحرف في شكاته وطلبه . وعندما وصل عبد الله الديوان على دراجته النارية وجد عددا من أقارب طرفي القضية . وقدم كل طرف دعواه وتبريراته، وطلب الحاج سلمان شهادة عبد الله ، فروى ما حدث بحيادية خالصة أزعجت أحمد ، فتدخل : أنت قلت عنها زلة لسان .
فنهاه الحاج سلمان عن التدخل ، ورمقه كثيرون باستغراب أخجله وأربكه .
واستأذن الحاج في الخروج مع جاره أبي محمد الذي يقاربه عمرا ويشابهه خبرة في القضاء العشائري ، وعاد الاثنان بعد ما يقدر بثلاث دقائق ، ولعل الريح الباردة المعصفة في الخارج أوجزت تشاورهما ، فتعلقت بهما عيون الحاضرين ، وأشدها تعلقا وتلهفا عينا أحمد . وبعد استقرار الاثنين في مجلسيهما ، قال الحاج سلمان : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله على نعمه التي لا تحصى ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، اللهم يا خير الفاصلين ! اجعلنا من القاضين المنصفين بين عبادك المتخاصمين ! نرى أن يدفع أحمد لسعيد ألف دينار لإهانته له ولو بزلة لسان لم يقصدها .
فانصعق أحمد مما عده قسوة مفاجئة في الحكم ، ووجم لا يكاد يقدر على التنفس ، وارتسمت الصدمة جلية على وجوه أقاربه ، وقال عمه : يا إخوان ! الشاب لا يعمل ، وعنده وزوجة وأولاد . ارحموه !
فغالب الحاج سلمان ابتسامة تقترب من شفتيه ، وسأل سعيد : كم تترك يا "بو" مالك لله والرسول ووجوه الأجاويد الطيبة ؟ !
فرد رامقا أقاربه : أترك كل الألف .
فكبر الحضور ، ووثب أحمد إليه وعانقه ، وقال بصوت متأثر أجش : سأقطع لساني هذا ...
وأشار بسبابته إلى فمه ، وأتم : إذا عدت لمثلها .
وسوم: العدد 711