ذهب بقلبها
استيقظت (دنيا) هذا الصباح منقبضة القلب .. مخنوقة النفس .. حلم يتكرر منذ تعرفت على (علي) في السنة الجامعية الأخيرة .. كانت صداقة وزمالة ، ثم تحولت إلى علاقة استلطاف .. توجت بخطوبة وزواج .. كانت ترى دائماً في منامها أنها تمشي مع (علي) في طريق طويل وفجأة يترك يدها ويذهب في طريق معاكس .. كانت تناديه :
ـ يا علي يا علي .. أنا دنيا أنا دنياك أنا حبيبتك ..
ولكنه يستمر في طريقه غير آبهٍ بصوتها ولهفتها ..
لما أخبرته أول مرة بخبر المنام وكانا ذلك الوقت في طور الاستلطاف والمشاعر الجياشة .. انقبض صدره ثم تركها وغادر .. وفي اليوم التالي طلب أن يتحدث معها في كافيتيريا الجامعة في موضوع هام .. وصارحها بمرضه المزمن .. قال لها بصراحة :
ـ لقد انسقت وراء مشاعري ونسيت أني إنسان مرضه يحرم عليه الحب والزواج والانجاب .. فمن مثلي لا يعيش إن قدر له أن يعيش أكثر من خمس وثلاثين سنة إن لم ينزل القضاء قبل ذلك ..
دار حوار طويل اختلط فيه البكاء بالكلام .. وكانت النتيجة تمسك دنيا بعلي إلى آخر نفس لها أو له في الدنيا .. ورفض علي لجميع محاولات دنيا .. وبعد صراع طويل وتدخل الأصدقاء والصديقات اقتنع علي بأن الأعمار بيد الله ولكل امريء نصيب من دنياه .. فكم من سليم مات وهو في مقتبل حياته وكم من مريض عمر وطال أجله ..
أقيمت الخطوبة وكانت مدتها قصيرة وتم الزواج سريعاً في نفس عام تخرجهما من الجامعة ..
كانت دنيا تلح على علي تريد أن تنجب منه أطفالاً ، ولكنه كان يعارض .. كان يمانع وهي تصر على موقفها .. حتى وصل بها الأمر أن تتهمه بالتخطيط للطلاق والانفصال .. وتدخل الأهل والأقارب حتى اقتنع بصعوبة بالإنجاب .. وحملت دنيا وأنجبت الأول والثانية والثالث والرابعة .. كانت سعيدة وهي ترى ثمرة الحب الطاهر العفيف .. وهبها المولى أطفالاً توارثوا منهما صفاتهما الشكلية والخلقية .. في كل فترة كان الحلم نفسه يراودها .. تصحى صباحاً منقبضة .. ولكنها تتناسى وتفسر الحلم تفسيرات شتى علها تسلى .. وإن كان القلب يعرف التفسير ..
مرت سنوات العمر الجميلة سريعة .. كلمح البصر .. سنوات عشر قضتها برفقته .. لم تكن من أنصار وضع الصور على الحيطان أو في الإطارات والبراويز .. ولكن الإنسان يتغير وتختلف نظرته للأمور بمرور الزمن ..
في يوم ما استيقظت من حلمها المزعج المعتاد على صوت هاتفها يرن صباحاً .. الصغار الثلاثة بالمدارس .. وعلي في عمله .. من عادته ألا يزعج منامها صباحاً لأنها تسهر مع الرضيعة أغلب الليل .. أمسكت الهاتف بقلق وسكيناً كالنار تحز في قلبها حزاً .. فجأة شعرت أن رفيق دربها قربت نهايته .. وأن الحلم المزعج تفسيره الحقيقي سيتحقق على أرض الواقع قريباً بل وقريباً جداً .. وأن الصغار على بوابة اليتم ذات الطريق المظلم الطويل الحزين .. ما إن ردت على الهاتف حتى جاءها صوت علي ضعيفاً مخنوقاً ..
ـ أحضري حالاً إلى المشفى ..
قفزت من سريرها قفزاً .. بدقائق معدودة كانت قد ارتدت ثيابها ووضعت حجابها وكأنها ليست هي نفسها التي تجلس قرابة الساعة تختار وتحتار بين ألوان الحجاب والجلباب والحقيبة وتناسبها مع الحذاء .. وجدت نفسها تمسك رضيعتها التي روحها معلقة فيها وتضع حاجياتها في حقيبة صغيرة وتنزل إلى جارتها تدق بابها دقاً قوياً .. رمت بالصغيرة بحقيبتها ومفتاح دارها بين يدي تلك الجارة وغادرت من دون أن تنبس ببنت شفة ..
قصتها مع علي معروفة عند الجيران والأصحاب .. فتعوذت جارتها من شر القادم .. في المساء جاءت إلى بيت جارتها تجر أذيال الحزن والهم .. قالت :
ـ تحقق حلم السنين .. ذهب علي وتركني .. ناديته يا علي أنا دنيا أنا دنياك .. أنا حبيبتك .. أنا أم الأربعة .. ما سمعني يا أختي ما سمعني .. أخذ قلبي وراح .. قلت له إبق من أجل الأولاد .. لكن الحور ينادونه تركني وذهب عندهم ..
زاروها بعد انقضاء مدة العزاء بعدة أيام فوجدوا صوره تملأ المنزل بعدة أحجام .. قالت :
ـ أخي الله يرضى عليه كبر لي صوره .. هو معي في كل مكان وكل لحظة ..
وسوم: العدد 720