صخب كاميرا
تمر الأيام على وتيرة واحدة،لم أقرر- بعد- الاعتصام،سجلت بكاميرا الذاكرة مئات الصور،شعراء يرفلون بصحبة الكاميرات،يلقون قصائدهم فى أى ركن،يتقيئون الأبيات،وبسرعة البرق ينفض الجميع،يلمون عدة الشغل،يسارعون بالهرب وكأنهم ملاحقين من الشرطة،ووسط الحديقة الوسطى تخلع فتاة جميلة القسمات مدكوكة الجسد ملابسها تماما،تتهادى بين الحضور فى ميوعة وليونة،نهجمن عليها بالملاءات والبطاطين،نخرجها من الميدان وكأنه ساحة مقدسة،تتباين التفسيرات؛مجنونة ،معتوهة،عاهرة،وربما تكون مندوبة لتشويه الصورة،ومن دفعها لإداء هذه الرسالة ظن أن لعاب الشباب سيسيل عليها،وينقلب المكان إلى ماخور فجور ودعارة،صنع الشباب بوابات على جميع المداخل والمخارج،لتظيم وتأمين الجماهير الغفيرة،المشهد أقرب ما يكون بشركات الأمن الخاصة المنتشرة بالمؤسسات الحكومية،عليك إبراز بطاقة الرقم القومى والخضوع لبعض غجراءات التفتيش الذاتى،ما أكثر المطاوى والسكاكين التى حصل عليها،معظم هذه الأشياء ضبطت مع البنات والنساء،ينقص الحضور ويزيجون دون نسق محدد،واليوم هو الإربعاء،والناس قليلون مقارنة بالامس،تتناثر الأخبار عن قدوم متظاهرين من ميدان مصطفى محمود مؤيدين لمبارك،يخططون لتفريغ ميدان التحرير من الشباب،فالحاكم الشرعى لا يسمح بمثل هذا السفور،والمعركة محسومة النتائج،وبعد آذان الظهر هلت جحافل مبارك،يمتطون الجمال والأحصنة،يمتشقون أسياخ الحديد المسنونة،يهجمون من ميدان عبد المنعم رياض،يحتل البلطجية العمارات المقابلة للمتحف،دوما الهجمة الأولى هى الأقوى والأشرس،دقائق ويخترقون صفوف الشباب ويتخطون الدبابات المتراصة بمحاذاة المتحف،تمطر السماء بالحجارة والطوب وزجاجات المولوتوف وطلقات الخرطوش،أيقبل الشباب بالهزيمة وسراب الحلم؟ يتمالك الشباب أمام الصمود،يردون الهجوم ،يطردونالغزاة،يأسرون الجمال والأحصنة،أئمة الأزهر يهرولون فى ارجاء الميدان،يبثون الحماس فى النفوس،يصدرون الفتاوى بحتمية الصمود والدفاع عن النفس والأرض والحلم الجهيض،يسطر الشباب ملحمة غير مسبوقة شجاعة وتكتيكا،العجائز يكسرون البلاط وأسمنت الأرصفة إلى قطع صغيرة،أملأ قميصى بعد أن خلعته بالطوب،أهرول إلى الصفوف الأولى،أفرغ الحمولة أمام الشباب،يطرد الصبية مفتولى العطلات البلطجية من فوق أسطح العمارات أثر معارك ضارية ملطخة بالدماء،أستمرت الحرب ساعات فوق الأسطح،أصيب العشرات بالجروح الغائرة،شجت الرؤوس،تكسرت الأضلع،ورجال الجيش الأشاوس يندسون فى دباباتهم ومدرعاتهم،أكتظت العيادات الميدانية بالجرحى،أقود مع البنات هجمات متتالية على جموع الغزاة،بلغ الأقتتال تخوم الموت الزوؤام،لا نجاة من تضافر قوى الشر،ما بين إقدام وتراجع ألتقيتك،تلبس جاكت بدلة وبنطلون جينز،أستهجنت تصرفك الغريب،تقبض على الطوب،تسير خطوات معدودة،تفلت الطوب على الأرض،تصرخ:
- الدم حرام..الدم حرام.
سرعان ما تدفس الحجارة فى جيوبك،وسرعان ما تفرعها،وكأنك تكافح المرارات،أقتربت منك،صحت فى وجهك:
- الموت فى التردد.
تبتعد عنى،أبحث عنك بعيون دامعة،تنكسر شوكة البغاة،تتوافد حشود الامداد،تتناقل المعارك إلى جميع المداخل،يتكسر أتوبيس الجنود،ينكسون رؤوسهم،أيجوز الحياد حتى يفتك القاتل بضحيته؟ ألم تر هذا الولد،فلان الفلانى،يحمله الشباب إلى العيادة ثلاثة مرات؛الأولى عشر غرز بفروة الرأس،الثانية خمس بالوجه،والثالثة رباط ضاغط على الركبة المشروخة،وفى الرابع اسلم الروح،يا له من شاب رائع!
تذيع المنصة القبض على أمناء شرطة،أحد الشباب يصرخ قائلا:
- هل تصدقون أن رتبة كبيرة جدا فى الشرطة توسلت إلى لكى أدعها تهرب،نحن أقوياء ونستطيع كشط هذا النظام الفاسد.
اليوم كان مفعما بالتعب والرهق،والعمل الشاق مازال مستمرا،تتزايد الحاجة إلى الأدوية والدماء،الاتصالات مقطوعة،أسترد الميدان بعض عافيته،المعارك فى الشوارع المحيطة لم تضع أوزارها،سرايا الدعم تتوجه إلى شتى الثغور،تتابع الأوامر من المنصات،ينصب الشباب معرضا لمخلفات العدو الغادر؛بطاقات رقم قومى لرجال شرطة،براطع،أسرجة،حديد مسنون،سيوف ملطخة بالدماء،عمائم،أمسى الاعتصام ضرورة لا فكاك منها،صورتك لم تغرب عن مخيلتى،أتفقد الخيام المتراشقة فى الارجاء،أخيرا أجدك منزويا متدثرا الرصيف وممتطيا السحاب،أجلس جوارك دون استئذان،أبادرك:
- ما أروع كأس ماء بارد وسندوتش فلافل!
- الطريق إلى شهيتى مسدود؛فالماء كالدماء.
- الصمود نجاة،الفرار خيانة،التأرجح مقتلة.
- كل الدم حرام،هم ونحن مظلومون،ولكنهم مغيبون،الوعى غائب،وتعليم الناس هو السبيل للخلاص من الطاغوت.
- فى الأوقات الحاسمة المجابهة تحفظ الحيوات.
- الصراع السياسى لا يجيز سفك الدماء.
- الدفاع عن النفس حق وخلاص.
- دفاع من ضد من؟
- دفاع الشباب لمجابهة أرادة الكهول وأصحاب المصالح.
- أترين فى العداء لأحلام المستقبل؟
- بل شاهدتك مترددا ،متراجعا عن المشاركة فى المواجهة.
- الحجارة والطوب لا تغيران واقعا تخلفه الطلقات والدانات.
- أندعهم يقتلوننا ويمسحون صورنا من بانوراما النضال.
- أنا أكره الدم،تنسحب روحى من جسدى لرؤيتى إياه،أيستحق الصراع السياسى كل هذا العناء؟
- يستحق أن ندفع الحياة ثمنا له،تناومنا وتغافلنا والمحصلة بلد ليس فيها إلا الفقراء،والأثرياء أزدوجت جنسيتهم،لا تخدعنى سلاسة الألفاظ،عشقت الفقراء من متن الروايات الأنسانية،والإنسان خلق عاريا ومفلسا.
- أتفق معك تماما فى عشقك للفقراء،وهذا ربما يكون السبب الوحيد لمشاركتى فى المظاهرات،لن تتعملق كراهيتى للنظام السياسى الحالى؛فالناس لا يتقودون السياسة،بائع الخبز لا يسألك الهوية ولن يعطيك العيش مجانا،المال ندر فى يد التعساء،النظام لا يملك إلا المسكنات،يوهمك بالصبر ،والحرمان كأس حنظل.
- والكرامة،أليس لها نصيب؟
- العلاقة عكسية بين الكرامة والفقر،ومن النادر أن تنفصل الكرامة عن الحاجات الاساسية كالطعام والشراب،فأظن أن جل الفقراء لهم كرامة المتسولين أتصدقين المثل القائل :تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها،أعتقد أن هذا الكلام فارغ المعنى،وكان من قبيل الفخر والتيه،ونحن تنقصنا حركات تحرر متتالية،ولكن الفقراء دوما يدفعون ثمنا باهظا وتضحيات بالحياة فى وجوه من يملكون المال والسلاح.
- سياراتهم محملة بالحجارة المسنونة أمام حديقة الخالدين فى مدخل كوبرى قصر النيل.
- هذه عاداتهم.
تتجدد المناوشات،أفر ملهوفة للمساعدة فى صد الهجوم المتكرر،والتى تخفت حدته،وهذا ما ينم عن تسرب الهزيمة والانكسارللمهاجمين،البوابات تعوزها التعزيزات،الشباب- الله يحميهم- يتزايدون،تتبدل المشاهد سريعا،كاد الفراغ أن يتلاشى،فى عيادة رصيف هارديز،أجد شابا غارقا فى بركة دماء،أنظر إلى وجهه،هذه الملامح أعرفها جيدا،يعطوننى حافظة نقوده،أقرأ الاسم:فادى مدحت،أقرأ ثانية،ثالثة،أنه هو ابن زوجى،أصرخ وكأننى لم أصرخ من قبل:
- ولدى.
تنكفئ على،تحيطنى بذراعيك،أدفن وجهى فى صدرك،تنحبس الحشرجات فى حنجرتى المنهكة،ما ظننت أن مدحت اللاهىيخلف مثل هذا الفتى،الذى يستميت فى الدفاع عن ميدان التعساء،ما لهذا الصبى وانفجار أصحاب الحاجات! أنه بالجامعة الامريكية،ومدحت لا يعرف عنه إلا أقل القليل،أحاول الاتصال بمدحت،الخطوط مقطوعة،لا أقوى على الحراك،أرفع رأسه فوق حجرى،تترى على مخيلتى مشاهد طفولتى؛البنت الصغيرة الحلوة الشعنونة،كل طلباتها مجابة،المرح ولا شئ غير المرح،الأب يهدهدنى،يعبث فى شعورى المسترسلة،الأم تحملنى معها فى كل مشاويرها،أنا شيكولاتة الجيران،كل الجيران،وكأننى أستهلك كل السعادة المقدرة لى.
تمت بحمد الله
وسوم: العدد 720