الخروج من النفق
نُشرت في مجلة "الجديد" الشهرية (عن مؤسسة صحيفة "العرب"، لندن) العدد الخامس، حزيران/ يونيو 2015).
قرئت في أمسية في "مكتبة الإسكندرية" ضمن الفعّاليات الأدبية أيام الاحتفال بمرور خمسة وسبعين عاما على رحيل شوقي وحافظ، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2007.
كلّ ما يعيه أنه يقف وإلى جواره ولده، في باب غرفة تُشبه إحدى الحجرات في مستشفى، وهو يُفيض في حديثه عن الفساد الذي استشرى! وكان رجالٌ سبعة أو ثمانية يُصغون إليه وقد اكتست وجوهُهم بذعر كان يزداد كلما أمعن في الحديث، وولده ما زال يترجّاه:
ـ أبي! أرجوك، لا تُـسرف في الانتقاد!
كان بين السبعة أو الثمانية الذين في الغرفة، رجلٌ متمدّد على سرير، هو الوحيد الذي لم يَبدُ الذعر في وجهه، وبسمةٌ ترفّ على شفتيه... فجأة رآه يقول:
ـ أحسنتَ! كلامُك كلّه صحيح ومفيد، يا أستاذ ’’س‘‘!
فلم يشكّ ’’س‘‘ في أنّ هذا الرجل واحدٌ من معارفه، ومن ذوي الضمائر الحرّة، فزاد في انتقاده:
ـ لقد اجتاح الفساد كلّ شيء، حتى أصبح واجبًا على كلّ مواطن منّا أن يجهر برأيه كي تصل أصواتنا إلى أسماع السلطة.
أيّده الرجل:
ـ أعرف عنك جرأتك. سمعتُ وقرأت وشهدت. إنك حقًّا مواطنٌ مقدام. زِدنا ممّا عندك.
فخيّل إليه أنه في حلم جميل. بسط ذراعه نحو ولده، ابن الاثنَي عشر ربيعا، يشدّه إٍليه وكأنه يتمنى له أن يشرع في الجهر برأيه في انتقاد الفساد، منذ الآن وليس غدا أو بعد غد.
وبينا هو كذلك، وجد أنه قد غدا في وَسَط الغرفة لا في بابها، بين هؤلاء الرجال وقد أحاطوا به، الآن، فكأنه واقع في قبضتهم، بمن فيهم "ذو الضمير الحيّ"، الذي لم يعد متمدّدًا على السرير، بل كان يقول صنيعَ واشٍ محترف:
- هذا الرجل سبّ السلطة، يا سيدي المحقق!
فتوجّه هذا إليه:
ـ كيف سمحت لنفسك بأن تسبّ السلطة؟!
فأُرتِج عليه حتى لم يجد لديه - وهو المِنطيق - ما يردّ به على السؤال.
قال المحقق:
ـ هل أصبحت سَبّة السلطة، في زمننا الرديء هذا، أغنيةً تترنّم بها الشفاه؟!
فالتفت ’’س‘‘ إلى الواشي:
ـ ولكنك كنت الوحيد الذي أيّدني في انتقادي وقلت لي ’’أحسنت‘‘، واستزدتَني القول!
ـ كنت أُزحلقك!
ـ تُزحلقني؟!
قال المحقق:
ـ كيف مكّنتـَه من أن يزحلقك، وأنت ’’المتحذلق‘‘ كما أراك؟
ـ ليس في المسألة ’’زحلقة‘‘ ولا ’’حذلقة‘‘، أيها المحقق! كنت أنقد الـ...
ـ تنقد؟!
ـ نعم، أنقد السلطة وما استشرى فيها من فساد.
ـ فساد؟ تقول فساد في السلطة!
ـ ومئة فساد! ألا ترى المتسلّطين وما فعلوا؟
ـ المتسلّطون؟ أظنّك تعني المسؤولين!
ـ إيّاهم أعني.
ـ وماذا رأيت المسؤولين يفعلون؟
ـ نهبوا المال العام، وابتزّوا الناس في أموالهم وأرهقوهم في أحوالهم، وكفُّوا عن أن يكونوا حكّامًا حكماء، وتركوا الأعداء يمرحون على الحدود والعملاء يسرحون داخل الوطن!
عَبَس المحقّق:
ـ أنت تتفوَّه بكلام خطير!
ـ بل إني، بصفتي مواطنا محبًّا لوطنه، أمارس حقّي في النقد البنّاء، وفي التقريع والتجريح إن تطلب الأمر، مدافعًا عن موقفي بلساني وقلمي وأظفاري وأسناني.
ـ لم يعد ينقصك إلّا أن تقول: وبأنيابي أيضا!
ـ أرجوك لا تسخر!
ـ أنت تعرّض نفسك للمُساءلة القانونية.
ـ ليس هناك مَن هم أولى بالمساءلة القانونية وغير القانونية، مِن أولئك الذين يقترفون الفساد أشكالا وألوانا، في كلّ يوم وفي كلّ ساعة.
ـ إنهم المسؤولون، وإنّ فوقهم مَن يحاسبهم. وأما أنت، المواطن، فإنّ لي الحقّ في أن آمر بتوقيفك الآن.
ـ عجبًا! أبَلغ الأمر أن يُلقى القبض على المطالبين بالإصلاح ويُترك الفاسدون يُتابعون ما هم فيه؟
ـ ليتك تدرك خطورة ما ينطق به لسانُك، أيها المتحذلق!
ـ وليتك تعرف، أيها المحقق الذي يبدو لي مستجدًّا، أنّ الحكـّام كلّ الحكّام في العالم، ما زالوا يستلهمون أقوال الحكماء وأفكارهم فيما ينشدون من الصلاح والفلاح. وإنّ رئيسنا ’’نظام الدولة‘‘ نفسه، بعد أن بلغه ما وصلت إليه الأحوال، أخذ يستمع إلى أهل الرأي، متجاوزًا البطانة وما تضمّ من ممالئين ومصفّقين. إنّ هُتافا مثل ”بالروح، بالدم، نَفديك يا زعيم“، ينبغي أن يُرفض من أساسه، فليس يجوز أن يُفَدّي أحدٌ من الناس أحدًا، ولكن الجميع يُفَدّون القيم، القيم الكبرى الغالية، وفي قمّتها ’’الوطن‘‘، فلنهتف جميعا: ”بالروح، بالدم، نَفْديكَ يا وطن“. لا تفتح عينيك على سعتهما هكذا! يقينًا، إنّ ما تتلقّاه منّي الآن من قول، تسمعه لأول مرة في حياتك، ولكني ما أزال أصرّح به منذ دهر، أجهر بأعلى صوتي. وقد قلته، أعني كتبتـُه بأناملي هذه، في رسالة بعثت بها إلى سيّد القصر. ما لك ترفع حاجبيك! وخيّرتـُه بين أن أجعلها ’’رسالة مفتوحة‘‘ أبعث بها إليه على صفحات الجرائد وراء الحدود، وبين أن تكون رسالةً خاصة مني إليه!
ـ أَفعلتَ هذا، بربّك؟!
ـ أقول: كتبتُ إليه!
ـ وبمَ أجابك؟
ـ فضّل أن تكون الرسالة خاصة.
ـ وكيف عرفت؟
ـ دعاني إلى القصر.
ـ أنت مَثَلت بين يدي رئيسنا ’’نظام الدولة‘‘؟!
ـ وطال حواري معه.
ـ ونطقت أمامه بما تقوله الآن؟!
ـ وأكثر منه.
ـ وما تزال تتنقَّل بين الناس؟!
ـ ويحك! أَوَكنتَ تتوقّع أن يُلقي بي في غَيَابةِ سجن، أيها الـ...؟!
ارتفع صوت المحقق وقد نَفِد صبره:
ـ أيها الرجل! خبِّرني من أنت! إني حتى الساعة أجهل مَن تكون!
ـ ألم يخبرك ذلك المتخفّي في صورة مريض على سرير في مستشفى؟ إذن فقد نقل إليك المعلومة شوهاء وناقصة، قبل أن ينسلّ بخفّة قطٍّ بريّ، مستحقًّا مكافأته على ما أخبر به!
في هذه اللحظة رأى ’’س‘‘ أحدَهم يدخل المكان بخفّة قطّ بريّ آخر. انحناءةٌ على الأذن. همسٌ وإسرار. انسلال... والأسارير انفرجت. أقبل عليه المحقق:
ـ أستاذ ’’س‘‘! من صميم قلبي أُهنّئك، على أقوالك وطروحاتك وعلى كلّ ما يدور في رأسك من الأفكار النيِّرة والخواطر الخيِّرة. أنت مواطنٌ عظيم، مفكّرٌ جهبذ، أستاذٌ ممتاز. إنّ الوطن في أمسّ الحاجة إليك وإلى أمثالك العظام، أنتم مخلِّصو المجتمع من آفاته وعاهاته، حتى يصبح مجتمعًا رخيًّا رضيّا، يعيش أبناؤه بطمأنينة وسعادة...
وأقبل عليه، يصافحه ويهمّ بمعانقته، وهو يَشرَق بدمعه...
ابتسم ’’س‘‘ بمرارة: هل على كلّ محبّ لوطنه أن يجادل كلَّ مواطن، ويُفيض في الشرح والتفنيد، قبل أن تتنزّل عليه القناعة، أو يهبط قطّ بريّ، ويكون بكاءٌ وعناق؟!
تنبّه فجأة، فلم يجد ابنَه إلى جواره:
ـ أين ولدي؟!
تلفّت المحقق حواليه، قال كالمعتذر:
ـ عفوًا، سيدي! يبدو أنهم ساقوه إلى ’’قسم الأحداث‘‘!
ـ قسم الأحداث؟! ولماذا؟! وأين يقع قسم الأحداث هذا؟
ـ هناك، هناك... اصحَبوا أستاذَنا الجليل إلى قسم الأحداث، يا شباب!
وخرج يُسرع الخطا.
ـ ولكن لماذا اقتدتموه إلى قسم الأحداث؟!
ـ من أجل التحقيق معه؟
ـ وفيماذا تحققون؟!
أخذ يهرول، وهم يهرولون خلفه. وأمام بابٍ حديديّ موصد توقّفوا. قرعوه.
ـ نريد الحدث الذي جئنا به إليكم قبل ساعة.
جاء الردّ:
ـ ولكنه لم يعترف بشيء!
ـ أبوه برفقتنا. أعطونا إيّاه.
ظهر وراء الباب رجلٌ ضخم:
ـ أنت أبوه؟
ـ أعطوني ولدي.
ـ حاولنا انتزاع الاعتراف منه، ولكنه أصرّ على الإنكار!
ـ أيّ اعتراف! وأيّ إنكار!
ـ ويؤسفنا أن نبلغك أنه مات في أثناء التحقيق!!!
ـ قتلتموه، أيها الأوغاد؟! اين ولدي؟ أريده حيّا!
وقدّموه إليه جثـّة ً هامدة.
ـ أيها المتخلّفون! أيها الجهلة! أيتها الوحوش المتخفّية في إهاب بشر! قتلتم ولدي!!!
حمل ولده بين ذراعيه. ضمّه. قبّله، وقبّله، وقبّله.
ـ يا ولدي! قتلك برابرة هذا الزمان!
وأخذ يجري.
ـ ولكن لماذا لماذا قتلوه؟!
وجد نفسه في نَفَق... يجري، ويصرُخ:
ـ يا ولددد...ي! مِن غير ذنب قتلووو...ك!
أمعن في جَرْيه، ومَن معه يجرون في إثره.
لاح له، في آخر النفق، نور. يقترب من النور. النور يبتعد. يصرُخ. الجدران تُشاركه الصراخ، ومن الأرض ينبعث أنين. كلّ ما حوله يشاركه الصراخ والأنين.
ـ قتلوك، يا ولدي!
وولده على صدره.
وما زال يجري نحو النور... والنور يزداد بُعدًا عنه كلما اقترب.
وسوم: العدد 723