في الحَافِلَة
قصص أقصر من القصيرة (2)
وقف (سليمٌ) في ممرّ الحافلة، مَـحشوراً، بين عشرات الرجال، مُـمْسِكاً، بقبضة يده اليمنى، الجسرَ الحديديَّ المارَّ فوق رؤوس الرُكّاب، بينما يده اليسرى تقبض على مجموعةٍ من أوراق المحاضرات.. مادّاً عُنُقَهُ باتجاه الأعلى إلى أقصى درجةٍ ممكنة!..
الحافلة تقف عند كل موقفٍ مُخصَّص، لتنسَلَّ إلى داخلها مجموعةٌ إضافيةٌ من الركاب، وصوت جابي التذاكر ينبعث كل دقيقة:
- إلى الأمام يا شباب.. إلى الأمام، تحرّكوا قليلاً إلى الأمام!..
لا يستطيع سليم أن يتحرّكَ أكثر من ثلاثة أو أربعة سنتيمترات.. فيما القوم حوله يتأفّفون، وكلٌ منهم يعلّق تعليقاً يخرج من حَلْقِهِ مكبوتاً!..
- إلى الأمام يا شباب، أهلاً أبا أحمد.. اصعد.. اصعد، حاول أن تصعد.. (يقول الجابي)!..
القوم يتحرّكون بضعة سنتيمتراتٍ إضافيةٍ إلى الأمام!.. لكنّ سليماً يبدو وكأنه يفكّر في أمرٍ ما، مع أنّ التفكير في مثل هذه الأوضاع، يُحتَسَبُ كارثةً وطنية، يمكن أن توصِلَ صاحبَهَا إلى هناااك.. حيث يؤدَّب كل مَن لديه بعض الضعف في وطنيته وموالاته.. لكن، مع ذلك كله.. فسليم يفكّر:
- خمسون دقيقةً حتى استطعتُ أن أجدَ لنفسي مكاناً، في حافلةٍ تنقلني إلى ساحة المدينة، وأربعون دقيقةً حتى أصلَ إلى المحطة التالية، التي يجب أن أعثرَ عندها على مكانٍ في حافلةٍ ثانية، لأصلَ إلى أقرب نقطةٍ من الكليّة.. وعشرون دقيقةً مَشياً على قدميّ، لأصلَ إلى قاعة المحاضرات.. وبعد أربع ساعات من الدوام، يجب أن أعودَ إلى بيتي بالطريقة نفسها، لكن قد يستغرق ذلك وقتاً أطول.. وسأصل منهَكَاً، لأرتاح ساعةً بعد تناول طعام الغداء، ثم..
- إلى الأمام يا شباب.. إلى الأمام!..
يتمكّن سليم من ثُلُثِ التفاتةٍ إلى اليسار، يحاول أن يمرِّرَ بضعَ كلماتٍ باتجاه الجابي.. فلا يستطيع.. يتنفّس شهيقاً، ثم يستحضر شكل سيارة المرسيدس السوداء ذات الستائر، التي يصل بها إلى الكلّية زميلُ دراسته (عماد)، نجل أحد ضباط الحرس الخاص.. يحاول سليم أن يتكلّم، لكنه يضبطُ أعصابَــه، فيما (لازِمَةُ) الجابي أبي صهيب، تنبعث من جديد:
- إلى الأمام يا شباب.. إلى الأمام!..
يُجيبُ (سليم) بصوته المخنوق، رداً على صوتِ الجابي:
- يعني يا أبا صهيب، قبضتَ من كلٍ منا (خمس ليراتٍ) أجرةً.. ومع ذلك تريدنا أن نصلَ مَشياً داخل حافلتك، على الأقدام؟!.. والله.. والله العظيم.. هذا ليس عَدلاً!..
وسوم: العدد 729