الخروج من المجال المغناطيسي
دخل راضي غرفته، واستلقى على السرير بكامل لباسه، لم يدع له الإرهاق مجالاً لخلع حذائه، أغمض عينيه وتنفس بارتياح، تاركاً خياله يعود إلى حيث أمضى النهار، بين شوارع وأزقة لا أثر فيها للعيون الجاحظة المحمرة، والنظرات الفارغة البلهاء، ولا للرائحة الحادة النفاذة تنبثق من الأحذية العسكرية و الحقائب والجيوب، أمضاه مندساً بين زحمة الأجساد، يتلفت يغني، يحدث نفسه بصوت مسموع، يثير بعض المارة فيتلفتون إليه، ثم يتابعون سيرهم، يتركونه غارقاً في ارتعاشات نشوته بالحرية.
حتى غروب الشمس، كان راضي هائماً في المدينة الكبيرة، ذاتها النهايات الضبابية، يتنفس يركض خلف العربات، يجلس على حافات الأرصفة، يرتاد الحدائق والمنتزهات، ينظر في حاويات القمامة، يدخل المباني الرسمية ويخرج منها بلا سبب، يمارس الحرية، الحرية، هذه الكلمة السحرية التي ما فتئ يرددها متلمظاً، وهو ينصت إلى الصوت الآتي من عصارة معدته الخاوية.. حتى الجوع، بات لذيذاً ممتعاً حين اقترن بالحرية في هذا المنفى الاختياري.
غرق راضي في إغفاءة هانئة، بلا أحلام ولا كوابيس، لا يعرف لا يهمه أن يعرف، هل استمرت ساعة أم يوماً أم عدة أيام، ولا يهمه أن يتذكر هل دخل غرفته في ليل أم نهار؟
هكذا، اتخذ قراره الحازم، واختار العيش بعيداً عن عبد الجبار ونظرته المتعالية الساخرة، التي كانت دائماً كفيلة بتحطيم شجاعته، معاهداً النفس على انتزاع ذلك الخوف الأبدي المعشش في سماء القرية وترك عبد الجبار وأعوانه للطوفان، أو فليشنقوا بذلك النير الذي ارتضوه لرقابهم حتى تعودوه، بل أصبح فخراً لبعضهم واعتزازاً.
قرر راضي ألا يعود إليهم أبداً، فبدأ بأولى مراحل الاستقرار، استأجر منزلاً بعد أن التحق بعمل مناسب، هاهوذا اليوم يخطب ابنة الجيران، الرشيقة اللفتات، لتكون رفيقة حياته، تقاسمه اللقمة، والكلمة، والإحساس بالحرية، حرية النوم بهدوء، بعيداً عن خفق نعالهم حول المنازل، بعيداً عن العيون الجاحظة تطل من نوافذ البيوت والمخادع مستطلعة مستكشفة، والآذان المرهفة دائماً لكل صوت وحركة، حريته في الخروج من المنزل والعودة مبكراً، أو متأخراً أو المبيت في الخارج، دون أن يثير ذلك ألف تحقيق وسؤال.
انتفض راضي كأرنب مذعور، ركض طارحاً على نفسه الأسئلة بصوت مرتفع: لماذا؟ لماذا؟ أعيش هنا بعيداً، تفصلني عنهم مسافات تضيع فيها الظنون، وأبقى حبيس ذكرياتهم، كأني مازلت بينهم؟
ترك راضي المصعد الكهربائي، ونزل راكضاً على السلم، بعد عدد من الدرجات، تذكر أنه ترك الباب مفتوحاً، تنهد بأسى وعاد أدراجه كانت أمه تتشاءم دائماً من هذه الرجعة، وقد أورثته تشاؤمها، زمّ شفتيه، وضرب الهواء بقبضته غاضباً: من أين يأتي الشؤم؟ أغلق الباب وانسل بهدوء إلى الشارع.
قبل وصوله الشارع، اصطدم نظره بالبناء المقابل، تأمله قليلاً تبدو نوافذه كعيون بلا جفون، ترصد حركاته وتحصي خطواته، والأبواب قد فتحت أفواهها بهلع وهي تحدق في الطريق، مشى بحذر باحثاً عن سوء الطالع أحس بالرائحة الحادة تتسرب إليه مع نسيمات الهواء، خفيفة ناعمة راحت تشتد شيئاً فشيئاً حتى وصل دكان العمّ سليم هنالك رأى العيون محمرة جاحظة، والكروش آخذه بالانتفاخ.
انتزعته من حذره صاحبة الدار، نادته من شرفة منزلها: إلى أين أنت ذاهب يا راضي؟ هنالك من يبحثون عنك، يقولون أنهم أقرباء، لقد وصلوا إلى بيتنا، تعال إنهم ينتظرونك.
عاد راضي بخطى بطيئة، مخاتلاً المرأة المنادية، حتى إذا ما ابتعدت عن الشرفة، أطلق ساقيه للريح، هرب وسيهرب، لن يعود أبداً للعبودية، تذكر، فكر، غربل كل ما مرَّ في حياته من الأحداث، وما تعلمه من العلوم، أن أفضل ما تعلم، هو ذلك الدرس الذي أخذه عن القنفذ في رحلات الصيد، فحين يعلق أحد أطرافها بالفخ، وتيأس من الخلاص تلجأ إلى أسنانها، تبتر بها ذلك الطرف، وتنجو ببقية جسدها وروحها فليجرب، ما الضير في خسارة المال، أو قضاء مدة في السجن، إذا كان الثمن الاعتراف بكل شيء ومصادرة عبد الجبار ومستودعاته؟ فليجرب.
على آخر مقعد، من أول باص مسافر خارج المدينة، جلس راضي يعيد حساباته يستظهر الكلام الذي سيتلفظ به أمام الشرطة في بلد اللجوء، كانت عيناه معلقتين بحافة الرصيف الحديث الطلاء، مشى الباص ببطء فتوالت الألوان أمام راضي: أبيض، أسود، أبيض، أسود، ثم ساد الغبار.
وسوم: العدد 739