بطل في جبل الزاوية، قصة المجاهد الكبير إبراهيم هنانو

اللعبة الخطرة

أبو راس:

هكذا يلقبونه. ولا بد لللَّقب من سببٍ، فهل هو الإنسانُ الوحيد الذي له رأس؟ أو رأسه أكبر من رؤوس الآخرين؟ لكنَّ الذي لا شكَّ فيه أنه ذو مال طائل. قرى وبساتين وخيول، وقطاع من المرابعين والفلاحين في طاعته وخدمته.

منذ وعيت الحياة وأبو راس زعيم من زعماء مدينتي (أم النوافير). كان آنذاك الزعيم الأول، يدخل الانتخابات بلا منافس، ويفضُّ المنازعات بنظرة بكلمة، ويثير العواصف والأمطار إذا غضب. هذا لا يعني أنه محبوبٌ أو عادل، بل هو شيطان مريد، اغتصب الأموال والأعراض في غفلة من الناس، وانفرد ببعض خصومه، فأرهب الآخرين، واتخذ بطانةً من السفاحين، فدانت له الشوارع والأرياف. إذا خيَّم الليل أشرقت شمس أبي راس..

فمنتداه حافلٌ بالرواد، وجنوده يطوفون في طلب الصيد.. أي صيدٍ، لا يفوتون دجاجةً أو فرساً أو فتاةً كاعباً أو فديةً ثمنية.

أبو العيال:

زعيمٌ آخر ظهر في منطقتنا، في السنوات الأخيرة. ليس من أهلِ المدينة. إنه من الريف، لا ندري على وجه الدقة تفاصيل سيرته في بني ريفه.. رأيناه حليفاً قادراً بأمواله وأعوانه على أن يكف أذى أبي راس، أن ينزاله في اللحظات الحاسمة.

كنا نحن جماهير المدينة والريف نعادي أبا راس وزبانيته بأشكالٍ مختلفة.. سراً.. علناً.. بدرجات متفاوتة.. بحسب الحرف أو الأسر أو القوى التي ننتمي إليها.. كنا نتفق على عدائه، ونختلف في الطريقة، وهذا سر ضعفنا، وسرٌ من أسرار قوته. لما أشرق نجم أبي العيال بدأت طرق المقاومة تتقارب. فأبو العيال.. أبو المعارضة المشتتة والسواعد المضيعة والبطون الخاوية أيضاً..

شهدت معركة انتخابية انقسمت فيها المنطقة حزبين، يكيد كلٌ منهما للآخر.. كلمة معركة انتخابية في منطقتنا صارت تعني المعركة بكل أبعادها: رشاوى، مؤامرات، مصادمات مسلحة، قتلى، أيتام، أرامل.. وفوز القوي على حساب الضعيف.

مع ذلك وبسبب ذلك كسبها أبو راس، لأن الانتخابات هذه المرة كانت أول امتحان لقواه على نطاق واسع، خاضها مصيرياً، ففاز، ونحن فزنا أيضاً.. أصبح تكتلنا أشد وضوحاً وتماسكاً برغم انهزام مرشحنا الظاهري.

الساحر:

في منطقتنا المحدودة كل شيء جديد يلفت النظر، وفي منطقتنا مواسم ظريفة يحضرها الناس من مختلف المناطق، ولا سيما موسم (بازار الفرجة).. حيث تقام أسواق للأطعمة والألبسة والنحاس وآلات الطرب والدواب والمصارعة والتفرج على الحيوانات المتوحشة كالدب والضبع والذيب.. كلمة (الفرجة) اصطلاحٌ يدل على هذه الأسواق وعلى ألعاب بعينها مثل لعبة الرأس المقطوع ولعب السحرة.

وكما تعتبر المآتم مناسابات للاستغلال السياسي، فإن الأفراح والمحافل والأسواق (وبازار الفرجة) بالذات مناسبة خصبة لهذا النشاط غير المستور.. البازار يدوم ثلاثة أيام على الأقل، الخانات.. الشوارع لا تستوعب الشحود الطارئة، وموسم الانتخابات النيابية على الأبواب.. الحل الطبيعي أن ينزل الوجهاء ضيوفاً على الوجهاء.. الأوساط على الأوساط.. الدراويش على الدراويش، أي على الأرصفة والساحات، فرش الأرصفة والساحات غير لينة.. الحماسة تأخذ بالجموع، فتنتفض حلقات راقصة على أنغام الطبول والمزامير تدبك من المساء حتى الصباح، ثم تترامى هلكى على أقرب متكأ: نساءً ورجالاً، شيوخاً وأطفالاً، كلهم كلنا برغم السفر والسهر والفقر والعداوة سعداء!

وقت الظهيرة احتشد الناس في الساحة العامة ليشهدوا ألعاب الساحر أبي خالد.. استدار الجمع الحافل دائرة إهليلجية: الأطفال جلوس في الصفوف الأمامية.. الفتيان والكهول واقفون في الصفوف الخلفية.. على طرفي الدائرة المتقاربين برز أبو راس، يواجهه ويناظره أبو العيال.

(عيسى نبي، موسى نبي، محمد نبي.. كل من له نبي يصلي عليه).

قال الساحر هذه الكلمات يفتتح الألعاب.. أخذ يطوف على الحشد، يسوي الصفوف، يقدم التحيات، يجمع ما تجود به الأكف من قروش.. لما وصل الساحر إلى مكان الزعيم أبي راس علا الهتاف والتصفيق، قذف له الزعيم بورقة من فئة مئة ليرة سورية مرةً واحدةً! التقطها الساحر من الهواء بخفة خاطفة .. لوح بها للجمهور.. قبلها قبلة طويلة، ثم وضعها على رأسه.. في الوقت نفسه انطلقت الهتافات والزغاريد من جهة الزعيم أبي العيال، وإذا ورقتان من فئة مئة ليرة تتطايران.. لم يفوت الساحر الفرصة.. انقلب بقفزتين بارعتين في الهواء.. التقط الورقتين النقديتين بفمه، ثم أمسكهما بيده، ووضعهما على رأسه شاكراً ممتناً.

(عيسى نبي، موسى نبي، محمد نبي. كل من له نبي يصلي عليه).

أطلق الساحر عباراته مجلجلةً ليهدئ العواصف الفائرة، ليتجاوز الصدمة الكهربائية التي اصطفقت تتصاعد من التقاء السلكين. تابع قائلاً، وهو يتمايل، ويقفز من جهة إلى أخرى كالنابض الريان:

(أنا أشكركم، أشكر الضيافة، أشكر الكرم، كلكم على راسي).

(عيسى نبي، موسى نبي، محمد نبي، كل من له نبي يصلي عليه).

قال تابع من أتباع أبي راس، ووجهه محتقن بالدماء:

(لا بأس .. ليس الوقت وقت منافسة، الشباب يريدون أن يتفرجوا على السحر).

كان ذلك إيعازاً بالبدء الإجباري.

أخذ الساحر يتعرَّى من نصفه الأعلى: قامة مديدة.. كتفان عريضتان.. ساعدان مفتولان بعضلات ناضجة بارزين.. صدر واسع في بشرة سمراء محبَّبة.. الفم ذو فكين بارزين، يعلوهما أنف محدودب في مؤخرته، فوقه عينان ناريتان، كأنهما عينا نسر مدرَّب، وحاجبان كثيفان غليظان.. الجبهة والشعر المفلفل ينتميان إلى السخنة الإفريقية.

نحن الآخرون:

كان لظهور أبي العيال طعمٌ خاص في حياتنا، صار جزءاً منها يدخل في سلمنا وحربنا، في طعامنا وشرابنا، وفي اضطراباتنا السياسية. إذا اختلف مرابع أو فلاح مع سيده أبي راس كان المحرض أو المحامي أو الملجأ أبا العيال.

إذا أقيم عرس دُعي أبو العيال لرعايته.

الهواء الذي بتنا نستنشقه بحرية واطمئنان يذكرنا بأبي العيال.. لم لا؟

أليس هو الذي دوَّخ أبا راس، واضطره إلى مسالمة الناس، إلى تملق مشاعرهم. يظهر الرضا – وهو كارهٌ – عن تصرفاتهم، يعقد التحالفات الثنائية مع ضعفائهم على قدم المساواة. ها هو ذا يلجأ إلى ذم نفر من أتباعه، يفضح أساليبهم في الدس والابتزاز، متنصلاً من مخازيهم.

ماذا يهم؟ نحن نريد أن نعيش بحرية وعدالة وسلام.

الساحر وجدنا فيه إنساناً أشد جاذبية، وأسرع استقطاباً... لم نكن نعلم هويته الحقيقية .. مَنبتهُ الاجتماعي.. المنطقة التي جاءنا منها.. كل ما نعرفه أنه يكسب رزقه مثلنا بعرق جبينه.. إنه ببراعة يستمطر أكف الزعماء، بل هو قادر بسحره على أن يحول التراب ذهباً، أن يحرق الأوراق النقدية أمام أعيننا، ثم يخرجها من جيب أحدنا سليمة.. أن يضع الأرنب تحت الطربوش، ويخرجه من الدلو.. كنا ندرك أن سحره خفة.. خداع نظر، لا يحول المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة تحويلاً حقيقياً.. مع ذلك أحببناه، تعاطفنا معه، تمنينا لو نحاكيه.. لو نكون على قياسه.. كلماته.. حركاته.. حرفته.. ميلنا إليه ازداد على الرغم من الشائعات التي توحي باتصالاته الخفية المريبة بأبي راس أو بأبي العيال.. لم نكذب الاتصالات.. حبنا الطاغي له ابتكر المسوغات .. وجدناها فضائل أخرى.. ظهوره فتح الأبصار على مطامع أبي العيال الشخصية..

لعبة السيف:

للساحر أبي خالد سلسلة من الألعاب، بعضها قديم.. بعضها الآخر يتجدد كل موسم، اللعبة التي جمعت القِدم والجدة هي لعبة السيف.

لما كنت هذه اللعبة خطرةً تشد الأنظار والقلوب إليها، وتلهب الأحاسيس والدموع حتى الذورة القصوى.. تركزت عليها الأهداف.. اتخذها الساحر ختاماً لفصوله الأخاذة.. أبو راس وأبو العيال لم يعدما وسيلة للدخول في الأرصدة النفسية لهذه اللعبة.. بحضورهما بنقودهما.. يهتافات أتباعهما.. وفي المقترحات التي يدخلانها على تفاصيل اللعبة.

قال الساحر: (من يرمي إليّ السيف؟!).

تقدَّم مرافق أبي راس الخاص بلا استئذان.. جذب السيف.. قدَّمه بأدبٍ لسيده، الذي وثب من مكانه.. وقذفه في الهواء عالياً.. تراجع الساحر خطوات بخفة.. انحنى إلى الخلف..

تلقَّى السيف من مقبضه تلقي الريشة الطائرة على جناح نسيم هادئ .. صفق الجمهور كل الجمهور طرباً وإعجاباً.. انفجر التصفيق بعنف حين نفحه أبو راس بقطعتين من فئة مئة ليرة.

اندفع أحد أنصار أبي العيال مهتاجاً إلى مركز الدائرة، همس في أذن الساحر بكلمات لم نتبينها.. رأينا الساحر يفكر.. يهز رأسه هزات الموافقة، ثم قال:

(لعبة السيف الأخيرة اليوم، ستكون أجمل وأخطر مما رأيتم في حياتكم).

توقعنا أن يغير الساحر من مواصفات السيف الذي سيدخله في حلقه حتى القبضة.. إنه سيف قصير مستقيم غير مسنون.. صنع خصيصاً لهذه اللعبة.. هل سيزيد في طوله؟.

فوجئنا بأبي العيال يستل سيفاً حقيقياً من قرابه، يناوله للساحر مع رزمة نقدية تكاد راحة الكف لا تنطبق عليها إلا بصعوبة.

ضجَّ الجمهور الحاشد بهمهمات مبهمة بين الإشفاق والإعجاب.. الجو أصبح مشحوناً بشبح كارثة.. ازداد تعلقنا بالساحر.. تطوَّع الوجهاء الصغار لنصحه بالكف عن المغامرة..

سمع نشيج النساء والأطفال.. تعالت أصوات التشجيع والتحريض تتدافع .. من خلال البلل الذي طاف بأهدابي بد لي الساحر يغالب تردداً مشوباً بالقلق والنشوة..

في تلك اللحظة توقف التاريخ، اتحد الزمان والمكان.. لم يعد اللاعب ساحراً.. لم يعد الموقف منافسة شخصية سياسية محلية، صار الموقف أكبر من أبي راس وأبي العيال والساحر وأكبر من الجموع بأسرها..

(عيسى نبي، موسى نبي، محمد نبي....)..

وغاب السيف الطويل المعوج المسنون البرَّاق حتى القبضة في جوف الساحر.. مأخوذاً بالعواطف الجماهيرية المتلاطمة.. مقابلاً التحدي بتحد أشد.. ما أدري.. شرع يطوف علينا.. وجهه إلى أعلى.. كفه ممتدة بعلبة لجمع التبرعات، استطاع أن يكمل الطواف.. ثم .. ثم .. ثم وقف في المركز.. أطبق راحتيه على القبضة.. استلَّ السيف بسرعة.. السيف طار عالياً عالياً في السماء الزرقاء الصافية مخضباً بلونٍ أرجواني، وشلال دماءٍ اندفع من حلقه يرسم الخط الأخير في اللوحة..

وسوم: العدد 746