ترامب وباكستان ضغوط متبادلة لانتزاع المكاسب

تبحث الورقة إشكاليات العلاقات الأميركية-الباكستانية، وترى أن الخلاف يتجاوز مأزق أفغانستان، وذلك بعد تشكيل محور صيني-باكستاني، قد تدخل روسيا على خطه. وتخلص إلى أن كل طرف في الخلاف يواصل الضغط من أجل انتزاع مكاسب خاصة به، وتعزيز مواقعه.

تتناول الدراسة التصعيد الأخير في العلاقات الباكستانية-الأميركية، انطلاقًا من تغريدة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تسببت في توتر كبير في علاقات البلدين، لكن ذلك لم يكن موقفًا خاصا بترامب كحال تغريدات الرئيس الأميركي، فقد سبقتها تصريحات لنائب الرئيس وقادة البنتاغون والـ"سي آي إيه" تتحدث عن تقاعس باكستان عن التعاون الأمني مع أميركا ضد ما تسميه: الحرب على الإرهاب.

تناقش الورقة إشكاليات العلاقات الأميركية-الباكستانية وتأثيرات انحياز واشنطن للسردية الهندية فيما يتعلق بكشمير أو أفغانستان، وترى أن الخلاف أبعد من أفغانستان بعد تشكيل محور صيني-باكستاني، وقد تدخل روسيا على خطه، وتجلى ذلك بالممر الاقتصادي بين الصين وباكستان الذي يصل الصين إلى بحر العرب وتأثيرات ذلك الجيوسياسية على الأمن الأميركي في الخليج الذي يؤمِّن 8% من الطاقة للغرب، خصوصًا أن ميناء غوادر على بحر العرب الذي تستثمر فيه الصين يتميز بمياه عميقة تُمكن من رسو بوارج بحرية ضخمة.

وتستعرض الورقة أوراق الضغط الأميركية وكذلك أوراق الضغط الباكستانية في عملية عض الأصابع بين البلدين، وتخلص الدراسة إلى القول: إن مثل هذه التوترات شابت العلاقات بين البلدين ولكن تم تجاوزها تاريخيا، ويسعى كلا الطرفين لابتزاز الطرف الآخر من أجل انتزاع مكاسب خاصة به، ويعزز مواقعه من خلال تعزيز أوراقه الميدانية والتكتيكية.

التغريدة الوصمة

التغريدة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، هي تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في الثالث من يناير/كانون الثاني 2018، حين وصم ترامب باكستان بالكذب والخداع مضيفًا: إن الولايات المتحدة منحت باكستان أكثر من 33 مليار دولار على شكل مساعدات لخمسة عشر عامًا بينما لم تقدِّم باكستان إلا الأكاذيب والخدع معتقدين أن القادة الأميركيين أغبياء(1). لقد حصدت التغريدة حتى كتابة هذه الورقة أكثر من 101 ألف إعادة تغريد، و306 آلاف إعجاب، و56 ألف رد، لكن لعلَّ ما خفَّف الكثير عن الباكستانيين بعد هذه التغريدة النارية نشر كتاب "نار وغضب" والذي تطرَّق إلى خلفية اتخاذ قرارات ترامب وزوبعة الانتقادات التي أثارها الكتاب ضده.

وقد سبقه في تغريدته هذه نائبه، مايك بنس، بتصريحات إثر زيارته إلى كابول، في ديسمبر/كانون الأول 2017، حين قال: إن أرواح الجنود الأميركيين في خطر نتيجة سياسة باكستان المزدوجة(2)؛ مما يؤكد أن التغريدة ليست حالة منعزلة، أكدتها تصريحات من البنتاغون والسي آي إيه كثيرة ومتعددة، وحتى كتاب هيلاري كلينتون وتجربتها يوم كانت وزيرة للخارجية.

تبع هذه التغريدة تعليق واشنطن لمساعدة مالية عسكرية لباكستان تُقدَّر بـ 255 مليون دولار بالإضافة إلى ما يقارب المليار دولار دعمًا لصندوق التحالف الدولي، المعني بخطوط إمداد قواته في أفغانستان عبر الأراضي الباكستانية، لكن كل هذا كان رأس قمة جليد تتراكم منذ عقود بين البلدين، تصاعدت في الفترة الأخيرة إذ يتهم الطرفان بعضهما بعضًا بمسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في أفغانستان من تدهور وفشل.

تتهم واشنطن باكستان بعدم الجدية في التعاون معها بقتال طالبان وشبكة حقاني الأفغانية، إضافة إلى تقاعسها في الحرب على لشكر طيبة التي تقاتل الهند، إرضاءً للأخيرة، بينما تُحمِّل باكستان واشنطن والحكومة الأفغانية التي تحظى بدعم واشنطن مسؤولية إيواء "إرهابيي طالبان باكستان" الذين يقومون بأعمال عدائية ضد باكستان بعد عمليات عسكرية ضخمة نفذتها القوات الباكستانية ضدهم في مناطق القبائل المتاخمة لأفغانستان فتمكنوا من الفرار إلى الطرف الآخر.

وخلصت دراسة معهد بروكينغز أخيرًا، عن علاقات واشنطن-إسلام آباد، إلى القول: "إن باكستان تقوم بتوفير دعم عسكري ومعلوماتي استخباراتي لحركة طالبان أفغانستان أفضت إلى مقتل جنود أميركيين وأفغان وحتى مدنيين أفغان"(3).

إضافة إلى الانزعاج الأميركي من تسارع وتيرة التقارب الباكستاني مع الصين، ممثلًا بتدشين الممر الاقتصادي والذي بلغت كلفته 62 مليار دولار بحيث يصل إلى ميناء غوادر الواقع على بحر العرب، وهو ما له غايات اقتصادية وعسكرية بعيدة الأجل، قد تؤثِّر على الحضور والوجود الأميركي في المنطقة كلها، لكن بالمقابل، ترى باكستان أن واشنطن بدأت تتجه أكثر نحو عدوتها التقليدية: الهند، والاعتماد عليها في أفغانستان التي تشكِّل حديقة باكستان الخلفية مما يهدد أمنها القومي.

شعور بالخذلان

الدعم الأميركي لباكستان تراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية؛ إذ يرى مفتاح إسماعيل، مستشار رئيس الوزراء الباكستاني للشؤون المالية في حديث لـ رويترز: "أن وقف المساعدات الأميركية لن يؤثِّر على باكستان بعد أن تراجعت من ذروتها عام 2011 التي وصلت إلى 3,5 مليارات دولار إلى المليار دولار فقط عام 2016"(4).

ويقدِّر قائد الجيش الباكستاني الأسبق، الجنرال أسلم بيغ، الخسائر الباكستانية منذ الالتحاق بالحلف الأميركي لإسقاط طالبان عام 2001؛ فيقول: "باكستان خلال حلفها مع أميركا من 2001-2008 كسبت 33 مليار دولار من أميركا ولكن بالمقابل خسرت 120 مليار دولار، ومعها 50 ألف قتيل باكستاني و6000 رجل أمن، ولا يزال ترامب يقول إنهم خُدعوا"(5).

اختصر قائد الجيش الباكستاني، قمر باجوا، التصرف الأميركي الأخير بقوله: "إن الأمة الباكستانية كلها تشعر بالخذلان الأميركي نتيجة الموقف الأخير من قطع المساعدات"(6). بينما وصف وزير الخارجية الباكستاني، خواجه آصف، القرار الأميركي بقوله: "إن الولايات المتحدة تنسف العلاقات على مستوى الدولة"(7). وسريعًا ما انتعشت الذاكرة الباكستانية لتستحضر حوادث ووقائع الخذلان الأميركي لها على مدى تاريخها القصير منذ انفصالها عن الهند عام 1947، فبعد سنتين فقط على حربها مع الهند عام 1965، وبينما كانت باكستان تنتظر دعم الأسطول الأميركي المفترض القادم إلى شواطئ كراتشي، وصلت الحرب إلى نهايتها ولم يصل الأسطول الأميركي وهو محل تندُّر لدى النخب الباكستانية، وقد كتب صاحب أول انقلاب عسكري باكستاني، الجنرال أيوب خان، كتابه، الذي لا يزال مرشدًا مهمًّا في باكستان وربما في العالم لفهم تعقيدات علاقة السياسة الخارجية الباكستانية مع واشنطن، ليُعنونه بـ"أصدقاء لا أسياد"، وقد كرَّر وزير الخارجية الباكستاني، خواجه محمد آصف، مصطلحًا قريبًا منه حين قال مؤخرًا: "أميركا ليست حليفًا ولا صديقًا والعالم واسع جدًّا، وأميركا لا تُطعمنا"(8).

ويتذكر الباكستانيون كيف تم خذلانهم بعد أشهر فقط من إكمال السوفيات انسحابهم من أفغانستان يوم طُرح تعديل عضو مجلس الشيوخ الأميركي، بريسلر، في أكتوبر/تشرين الأول 1990، والذي يفرض عقوبات على باكستان بسبب تخطيها للعتبة النووية، بينما كانت تصريحات الرئيس الباكستاني الأسبق، ضياء الحق، قد كشفت، منذ عام 1984، عن امتلاكه للسلاح النووي، ومع التفجيرات النووية الباكستانية، في مايو/أيار من عام 1998، فرض بيل كلينتون عقوبات جديدة على باكستان وفقًا لتعديل عضو مجلس الشيوخ الأميركي، غلين، كعقوبة على إجرائها الاختبارات النووية متحدية طلبًا أميركيًّا بألا تفعل ذلك، لكن بالمقابل لم تفرض أميركا نفس العقوبة ولا قريبًا منها على الهند التي سبقت باكستان بأيام في إجراء التجربة النووية.

بيان الجيش الباكستاني كان لافتًا ولم يسبق له مثيل حين أعلن أن باكستان لا تريد دعمًا على حساب كرامتها الوطنية، وأن انضمامها للحرب الأميركية، عام 2001، دفعت ثمنه بنقل الحرب إلى أراضيها وهو ما سيحصل اليوم لو استمرت بهذه السياسة العسكرية(9).

أبعد من فشل أفغانستان

تسود قناعة كبيرة أيضًا لدى النخب الباكستانية مفادها أن واشنطن تسعى إلى تقديم بلادهم ككبش فداء لفشلها في أفغانستان، لاسيما أن التدخل الأميركي في أفغانستان يدخل عامه السادس عشر، والتي تعد أطول الحروب الأميركية حتى الآن وقد كلَّفت الكثير من الأرواح والأموال ولا يزال النزيف مستمرًّا.

أجرت قناة CBS الأميركية لقاءً صحفيًّا مع قائد القوات الأميركية بأفغانستان، جون نيكلسون، اعترف فيه بأن كابول تحت الحصار وأن الأولوية الآن للحفاظ على حياة الجنود الأميركيين، ولذلك يتنقلون بالمروحيات ولا يسيرون على الطرق، وأن السيطرة على كابول، التي يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة، أمر صعب جدًّا. وفي نفس البرنامج التقت المحطة الأميركية مع الرئيس الأفغاني، أشرف غني، قال فيه: إن الجيش والشرطة الأفغانيين سينهاران خلال ستة أشهر إذا ما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان أو أوقفت دعمها لهما، كما اعترف بأن 90? من ميزانية الجيش والشرطة الأفغانيين من أموال دافعي الضرائب الأميركيين(10).

وكان عضو مجلس الشيوخ الأميركي، جون ماكين، قد أعلن في أغسطس/آب، من عام 2017، أنه لابد من مواجهة الحقائق فنحن نخسر في أفغانستان، والوقت حيوي إذا ما أردنا تغيير الموجة، وهو ما اتفق معه الجنرال الأفغاني المتقاعد، عبد الجليل قهرمان، والذي كان مبعوثًا للحكومة إلى ولاية هلمند حتى عام 2016 حين أبلغ النيويورك تايمز: "نحن نقول: إن طالبان بشكل واضح تكسب الحرب، وهذه الحرب لا يمكن لأميركا أن تكسبها".

وتتفق النظرة الروسية المدركة بحكم خبرتها الواقع الأفغاني مع ما ذهب إليه الجنرال الأميركي؛ إذ صرَّح المبعوث الروسي إلى أفغانستان، زمير كابولف، بأنه في حال سحب ترامب قواته من أفغانستان فسينهار كل شيء(11).

ولعل بيان الجيش الباكستاني يفسِّر بعض كواليس الخلافات الأميركية-الباكستانية بما يتعلق بأفغانستان تحديدًا إذ ذكر البيان أن "تطهير الجيش الباكستاني لمناطق وزيرستان القبلية من مقاتلي طالبان كان يقابَل بتحويل نصف أفغانستان إلى سيطرة مقاتلي طالبان أفغانستان فمن المسؤول عن هذا كله؟!"(12).

وتنظر باكستان بقلق إلى التقارير التي تحدثت عن انتقال مقاتلي تنظيم الدولة من الجزيرة السورية باتجاه أفغانستان، وفيما إذا كان ذلك تسهيلًا أميركيًّا من أجل التشويش على عمليات طالبان أفغانستان ضد القوات الأميركية؛ حيث لا تُخفي باكستان تضامنها وتعاطفها مع طالبان أفغانستان أملًا في إجلاء القوات الأميركية عنها ومعها النفوذ الهندي المتستر بها، ليصب في النهاية لصالح عودة الاستفراد الباكستاني بأفغانستان.

لكن بالمقابل، يُعتقد أن اللعبة أبعد من أفغانستان، فأميركا مستاءة من تعزيز التعاون والتنسيق الاقتصادي والعسكري الباكستاني مع الصين، خصوصًا بعد مشروع الممر الاقتصادي وميناء جوادر على بحر العرب الذي يكلِّف 62 مليار دولار، متضمنًا وصل مناطق سينكيانغ الصينية مع ميناء غوادر الباكستاني والذي سيوفر ميزة عسكرية واقتصادية ضخمة لكل من الصين وباكستان، منها قدرة البوارج العسكرية الضخمة على الرسو فيه نظرًا لعمق مياهه وهو ما لا توفره الموانئ الإقليمية الأخرى، بالإضافة إلى كونه ميناءً بديلًا عن كراتشي اليتيم لباكستان، في حال حصول أية مواجهة مع الهند وتكرار إغلاقه كما حصل في حروب سابقة بين الجانبين.

بينما يذهب محللون إلى أن التصرف الأميركي الأخير ربما له علاقة بتصويت باكستان ضد القرار الأميركي الأخير بنقل السفارة إلى القدس، ومن هؤلاء المحللة الباكستانية المعروفة عائشة سعيد: "إن التصرف الأميركي الأخير يعود إلى موقف باكستان برفضها إعلان ترامب نقل سفارته إلى القدس بالإضافة إلى تعزيز علاقاتها مع الصين وهو ما يسبب حساسية للأميركيين"(13).

أوراق ضغط أميركية

يخوض الطرفان، الأميركي والباكستاني، لعبة عض الأصابع في أفغانستان، ويتفق الطرفان، الأميركي والأفغاني، على أن التعامل مع باكستان صعب وحيوي. بدا الانزعاج الباكستاني منذ العمليات العسكرية الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عام 2001 للإطاحة بحركة طالبان أفغانستان، حين سمحت واشنطن للتحالف الشمالي -المعادي لباكستان- بالوصول إلى كابول، وهي إهانة ابتلعتها باكستان، لتردها بعد وقت من خلال دعم حركة طالبان لكن على نار هادئة، فكانت كمن يسير على خيط مشدود جدًّا، طرفاه دعم ومساندة القوات الدولية ضد مقاتلي طالبان، والطرف الآخر دعم الأخيرين لكن بصمت وهدوء. مما زاد من الغضب الباكستاني تصريحات واشنطن إن كان على مستوى الدولة العميقة في الخارجية والبنتاغون والدفاع أو على مستوى الرئاسة من الاعتماد على الهند عدوة باكستان التقليدية في تعزيز الوجود الأميركي في أفغانستان مما يضع باكستان بين كماشة هندية طرفاها قوات هندية معادية في الجبهتين الغربية والشرقية لباكستان.

ومع انطلاق المسار التفاوضي الأميركي ربطت واشنطن باكستان بأفغانستان ولم تعادلها بالهند وهو ما سبَّب انزعاجًا باكستانيًّا، حيث أطلقت واشنطن على مبعوثها الأميركي صفة مبعوث "أف باك" اختصارًا لأفغانستان وباكستان، ولم تُفلح الجهود الباكستانية في تعديل النظرة الأميركية حول "أف باك" التي تقزم باكستان، الأمر الذي دفعت واشنطن ثمنه لاحقًا من خلال الاستنزاف الأميركي الذي ما كان له أن يحصل على يد طالبان لولا الدعم الباكستاني، وذهب بعض المحللين أبعد من ذلك حين رأوا الموقف الأميركي وصل إلى مداه مع الهند بحيث غدا الطرف الأميركي يحاور باكستان نيابة عن الهند كما يحاور العرب نيابة عن اسرائيل(14).

ويمكن حصر أوراق الضغط الأميركية على باكستان بكون العلاقة الاستراتيجية التاريخية العسكرية بينهما تسمح لواشنطن بليِّ ذراعها فيما يتعلق بقطع الغيار العسكرية وتحديدًا فيما يتعلق بطائرات إف 16 وغيرها، بالإضافة إلى قدرتها على التأثير ماليًّا من خلال دعمها وإن كان قد تقلص أخيرًا، ولكن لديها قدرة بالتأثير على المانحين الدوليين والمؤسسات النقدية الدولية، ويراهن داود مارديان، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في أفغانستان، على أن باكستان مرتبطة ماليًّا وعسكريًّا مع الغرب أكثر من ارتباطها مع الصين وبالتالي فإن قدرتها على استيعاب العقوبات ضئيلة(15). لكن على ما يبدو، فإن باكستان تسعى إلى تعويض ذلك من خلال شريك استراتيجي هو الصين، في ظل صعود التنين الصيني بشكل كبير على ساحة جنوب آسيا والساحة العالمية بشكل عام، وهو ما يذهب إليه محمد عمر دادوزي الذي شغل منصب وزير الداخلية الأفغاني سابقًا، بالإضافة إلى سفير بلاده في إسلام أباد، من أن العقوبات الأميركية على باكستان أتت متأخرة بعد أن طورت باكستان علاقاتها الإقليمية مع الصين(16).

باتت باكستان تعتقد بأن الولايات المتحدة الأميركية تقوم بالانسحاب من كثير من المناطق ولذلك سعت باكستان إلى ترتيب علاقاتها مع روسيا وتحديدًا فيما يتعلق بأفغانستان إذ شاركت خلال العام الماضي بثلاثة مؤتمرات عُقدت في موسكو حضرتها روسيا وإيران والصين بالإضافة إلى باكستان لبحث القضية الأفغانية، وأجرت تمرينات عسكرية مشتركة مع روسيا وهي التمرينات التي تحصل لأول مرة منذ استقلال باكستان فضلًا عن شرائها مروحيات روسية، في إشارة إلى الابتعاد التدريجي عن سوق السلاح الأميركي، كما سعت باكستان إلى تعزيز علاقاتها مع الصين القوية أصلًا منذ نشوء الدولة الباكستانية الوليدة.

أوراق ضغط باكستانية

كان إعلان وصول وفد المكتب السياسي لحركة طالبان أفغانستان من الدوحة إلى إسلام أباد رسالة باكستانية قوية لواشنطن على أنها تمتلك بوابة الحركة للتفاوض كما تمتلك بوابتها للتحرش العسكري بها، حيث كشفت صحف باكستانية عن وصول وفد طالبان برئاسة شهاب الدين ديلاور وعضوية ثلاثة آخرين للقاء القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركية، آليس ويلز، في إسلام آباد، والذي وصف دور باكستان بالحساس لإنجاح الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان(17)؛ فأميركا لا يمكن لها أن تعقد تسوية سياسية في أفغانستان في ظل غياب باكستان، وهو ما تؤكده صحيفة الوول ستريت جورنال من أن: "الحرب على الإرهاب لا يمكن لها أن تنجح ما دامت باكستان تدعم شبكة حقاني وحركة طالبان أفغانستان"(18).

وتستطيع باكستان الضغط على واشنطن بإقفال الخطوط البرية أمام الدعم اللوجستي لقوات التحالف الدولي بأفغانستان، وقد فعلت ذلك عام 2014، وقد ألمح إلى ذلك وزير الخارجية الباكستانية خواجه آصف؛ الذي قال في حديثه للديلي تايمز: "نأمل ألا تصل العلاقات مع واشنطن لإغلاق خطوط إمداد الناتو إلى أفغانستان، وقد قمنا بالقضاء على كل ملاذات الجماعات في شمال وزيرستان بحسب مطالب أميركا سابقًا وإن كان لديها أي معلومات عملية فلتزودنا بها"(19). ولم يستبعد البعض الآخر إقفال الأجواء في وجه الطيران الأميركي باستثناء ما يتعلق بالجانب الإنساني تفاديًا لإشكاليات قانونية دولية.

سعت واشنطن من جهتها إلى التعويض المبكر عن ذلك بفتح خطوط إمداد من الشمال الأفغاني وتحديدًا قاعدة "مهناس" بقرغيزستان، لكن لم تُفلح في ذلك نظرًا لمشاكل سياسية ولوجستية، فقد أُغلقت القاعدة بوجه القوات الأميركية تحت ضغوط روسية، فضلًا عن كلفة تلك الخطوط البديلة المرتفعة نظرًا لطول المسافة، وعامل الخطورة الذي يتهدد القوافل، فضلًا عن الكلف السياسية الأميركية المترتب عليها دفعها لروسيا كون تلك الجمهوريات في الشمال الأفغاني لا تزال خاضعة للنفوذ الروسي، ويبقى أمام أميركا خطوط إمداد برية من إيران وهي كمثل البجعة السوداء التي لا يمكن تخيلها في الظرف الراهن.

يوفر الفضاء الجغرافي والديمغرافي البشتوني الواسع من الولايات الأفغانية الجنوبية بالإضافة إلى جيرانهم البشتون من الباكستانيين، للحكومة الباكستانية مجالًا كبيرًا للتأثير على طالبان وحواضنها الاجتماعية إن كان بأفغانستان أو بباكستان، وهو الأمر الذي يقض مضاجع الأميركيين لاسيما بعد تصريحات قائد القوات الأميركية في أفغانستان من أن قواتهم محاصرة فضلًا عن قناعة أميركية بأن "13 مديرية أفغانية تسيطر عليها حركة طالبان بينما أكثر من 30 مديرية متنازع عليها بين الحركة والحكومة الأفغانية"(20).

ترى المقاربة الباكستانية لتسوية القضية الأفغانية أن أميركا لا تهتم بالجماعات المسلحة التي تنطلق من الأراضي الأفغانية ضد باكستان، بينما تركز على محاربة الإرهاب في أفغانستان مع تجاهل جذور القضية السياسية والاقتصادية والمعيشية، وتتجاهل معه انحيازها إلى الهند(21).

خلاصة

شهدت العلاقات بين أميركا وباكستان كثيرًا من مراحل التوتر على مسار تاريخ الدولة الباكستانية الفتية التي ظهرت عام 1947، ولكن سريعًا ما يتم تجاوزها نظرًا لحاجة الطرفين لبعضهما البعض، فخلال الحرب الباردة، كانت باكستان ضرورة للأمن القومي الأميركي بغية مواجهة الشيوعية أو "إمبراطورية الشر"، كما دأب الرئيس الأميركي وقتها، رونالد ريغان، على تسميتها، وخلال الحرب على ما يوصف بالإرهاب كانت حيوية أيضًا للأميركيين لكونها على خط النار الأول في مواجهتها بأفغانستان كما كانت أيام الشيوعية، ولكن نظرًا لأولويات الطرفين، فإن مثل هذه التوترات سريعًا ما تظهر على السطح، لاسيما إن مسَّت الأمن القومي الباكستاني في قضية كشمير والعلاقة مع الهند وهو ما قد يدفع باكستان للتمرد، كما حصل أخيرًا بسعي الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ بوش إلى دفع الهند لتكون وكيلتها في أفغانستان وتحييد باكستان وهو ما أشعر الأخيرة بأنها ستغدو محاصرة من الجبهتين الشرقية والغربية التي تتواجد عليها القوات الهندية.

تلميحات باكستانية وأميركية أخيرًا بإمكانية العثور على أرضية لحل وسط في الخلافات بين البلدين، دفعت إلى القول بأن التوتر سحابة صيف، وبرز ذلك من خلال تخلي واشنطن عن مطالبها بملاحقة باكستان لثلاث جماعات محظورة أميركيًّا، وهي: طالبان وشبكة حقاني ولشكر طيبة الباكستانية، إلى المطالبة بواحدة فقط وهو ما قد يُشكِّل بداية للحل، خصوصًا مع التقارير التي تتحدث عن لقاءات طالبانية-أميركية في إسلام أباد برعاية باكستانية، لكن في المقابل فالتقارب الباكستاني-الروسي، والحديث عن علاقات طالبانية-روسية في مواجهة تنظيم الدولة، العدو المشترك لكليهما، مشفوعًا برغبة روسيا بزحزحة أميركا في أفغانستان لحجز مقعد لها فيها، كما حصل في سوريا، كل ذلك يوفر لباكستان وحليفتها طالبان مجالًا أفضل للمساومة السياسية مع أميركا ويُضعف بالمقابل الموقف الأميركي تجاههما.

________________

د. أحمد موفق زيدان، باحث مختص بالشؤون الباكستانية

مراجع

1-       تغريدة على حساب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على منصة تويتر، 3 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: يناير/كانون الثاني 2018)،https://twitter.com/realDonaldTrump/status/947802588174577664

2-       بروس ريدل: باكستان ملاذ للإرهابيين صحيح، ولكن ما هو فاعل؟، الديلي بيست، 3 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2018):

3-       فاندا برواون: لماذا تدعم باكستان الجماعات الإرهابية؟ ولماذا تجد أميركا صعوبة في إقناعها بالتغيير؟، 5 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2018):

 https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2018/01/05/why-pakistan-supports-terrorist-groups-and-why-the-us-finds-it-so-hard-to-induce-change

4-       شجاع نواز: نواقص السياسة الأميركية في أفغانستان، فورين أفيرز، 10 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2018):

5-       قيصر راشد: وجهة السياسة الخارجية الباكستانية، الديلي تايمز الباكستانية، 8 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2018):

https://dailytimes.com.pk/176186/pakistans-foreign-policy-orientation-vi

6-       تقرير إخباري للديلي تايمز الباكستانية/ قائد الجيش الباكستاني: كل الأمة تشعر بالخذلان الأميركي، 13 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 13 يناير/كانون الثاني 2018)

 https://dailytimes.com.pk/179998/entire-nation-feels-betrayed-us/

7-      سعيد شاه: باكستان تقول إن تحالفها مع أميركا انتهى، وول ستريت جورنال ، 5 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2018):https://www.wsj.com/articles/pakistan-says-alliance-with-u-s-is-over-1515155860

8-       تقرير الديلي تايمز الباكستانية، الجيش الباكستاني: باكستان لا تريد دعمًا على حساب كرامتها الوطنية، 6 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 6 يناير/كانون الثاني 2018):  https://dailytimes.com.pk/175132/pakistan-doesnt-need-us-aid-cost-national-dignity-army 

9-       تقرير الديلي تايمز الباكستانية : الجيش الباكستاني: باكستان لا تريد دعمًا على حساب كرامتها الوطنية، 6 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 6 يناير/كانون الثاني 2018): https://dailytimes.com.pk/175132/pakistan-doesnt-need-us-aid-cost-national-dignity-army

10-     لار لوغان: كابول تحت الحصار، وأطول الحروب الأميركية تطول أكثر، موقي سي بي إس، 14 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2018):

https://www.cbsnews.com/news/kabul-afghanistan-capital-under-siege-while-americas-longest-war-rages-on/

11-     جوليا غورغانوس: الاستراتيجية الروسية في أفغانستان، فورين أفيرز، 12 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2018):

12-     سعيد شاه: باكستان تقول إن تحالفها مع أميركا انتهى، وول ستريت جورنال ، تاريخ النشر، 5 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2018):

 https://www.wsj.com/articles/pakistan-says-alliance-with-u-s-is-over-1515155860

13-     عائشة سعيد: هل تتطلع أميركا إلى حرب جديدة؟، ديلي تايمز، 7 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2018):

https://dailytimes.com.pk/175493/america-looking-another-war/

14-     أسلم بيغ: العلاقات الباكستانية الأميركية.. نقطة البقشيش، الديلي تايمز الباكستانية، 7 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 7 يناير/كانون الثاني 2018):

https://dailytimes.com.pk/175627/pak-us-relations-tipping-point/

15-     مجيب مشعل وسلمان مسعود: قطع المساعدات عن باكستان.. أميركا تبدأ مقامرة بالحرب الأفغانية المعقدة، نيويورك تايمز، 5 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2018):

16-     مجيب مشعل وسلمان مسعود: قطع المساعدات عن باكستان.. أميركا تبدأ مقامرة بالحرب الأفغانية المعقدة، نيويورك تايمز، 5 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 5 يناير/كانون الثاني 2018):

17-     طاهر خان: وصول مندوبين عن المكتب السياسي لحركة طالبان بالدوحة إلى إسلام أباد، ديلي تايمز، 16 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2018:

https://dailytimes.com.pk/181900/taliban-political-envoys-qatar-office-land-pakistan/

18-     افتتاحية وول ستريت جورنال بعنوان لعبة الصقور والحمائم مع باكستان، 3 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2018):

 https://www.wsj.com/articles/a-game-of-chicken-with-pakistan-1515024924

19-     عائشة سعيد: هل تتطلع أميركا إلى حرب جديدة؟، ديلي تايمز، 7 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2018):

 https://dailytimes.com.pk/175493/america-looking-another-war/

20-     طلعت مسعود: نهم المطالب الأميركية، إكسبريس تريبيون، 4 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول 7 يناير/كانون الثاني 2018):

https://tribune.com.pk/story/1599053/6-insatiable-demands-us/

21-     رضا رومي: العلاقات الباكستانية الأميركية.. التبجح ليس بديلًا عن الدبلوماسية، 7 يناير/كانون الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 16 يناير/كانون الثاني 2018):

 https://dailytimes.com.pk/175635/pak-us-ties-bravado-no-substitute-diplomacy/

وسوم: العدد 757