ألم يحن الوقت بعد ليغير أساتذة مؤسسات التعليم العالي عندنا من طريقة معاملتهم المهينة لطلابهم ؟؟

بعد حديثي  في مقال سابق عن بعض ممارسات المعلمين العنيفة والمهينة للمتعلمين في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، ارتأيت الحديث عن ممارسات أساتذة التعليم العالي المهينة للطلاب ، وهي ممارسات كانت ولا زالت مستمرة وكأنها قدر لا راد له ، أو أنها من مقتضيات التعليم العالي . ومعلوم أن غالبية أساتذة  التعليم العالي إلا من رحم الله  عندنا يعانون من عقدة الاستعلاء ويركبون كبرياءهم ، وينظرون إلى من حولهم عموما نظرة احتقار وازدراء ، ويخصون بتلك النظرة طلابهم تحديدا . ويبدو أن هذه العادة السيئة قد توارثها السابق عن اللاحق منهم ، وصارت عادة ودأبا ، وهي سنة سيئة على من سنها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . ومع أن المعروف والمعهود عند أهل العلم أنه كلما رسخت القدم في العلم والمعرفة زادت صاحبها تواضعا لمن دونه علما ومعرفة  وللناس جميعا  . ومع أن التواضع لا يزيد صاحبه إلا رفعة ،وعلو شأن، فإن كثيرا من أساتذة التعليم العالي يفوتون على أنفسهم فرصة نيل  هذه الرفعة والمحمدة  بتعاليهم وخيلائهم . وصدق من قال:

وقول الآخر :

ومن أراد أن يتحقق من حكمة قول  هذين الشاعرين، فعليه بالطبيعة إذا أثمر شجرها، واستحصد زرعها.  وبناء على ذلك لا يمكن أن يشمخ ويستعلي على طلابه إلا خاوي الوفاض من الأساتذة ، أما راسخ القدم في العلم، فيسبقه تواضعه الذي قد يغري به الجاهل  ، ويكون مثار إعجاب لجمعه بين علم جم وتواضع كبير  ، وهما أمران لا يجتمعان إلا لأصحاب الشأن العظيم  . ولقد كان أنبياء الله عز وجل ورسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين أعلم خلق الله لما أنزل عليهم من وحي فيه علم عالمي الشهادة والغيب ، ومع ذلك كانوا أكثر خلق الله تواضعا للناس . ومعلوم أن التواضع للناس من التواضع لرب الناس إذ على من آتاه الله علما ،ويكون بذلك أخشى الناس له أن يشكر تلك النعمة بالتواضع . وما طرد إبليس اللعين من رحمة الله ومن جنته وأسكنه جحيم الخلد إلا كبرياؤه ، وما أعاد آدم عليه السلام إلى الجنة  بعد خروجه منها إلا تواضعه . ومعلوم أن الكبرياء سنة سيئة سنها الشيطان وعليه وقع  وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ولقد استأثر رب العزة بالكبرياء فقال في حديث قدسي  : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار ".

ويعتقد كثير من أساتذة التعليم العالي ـ  مع وجود الاستثاءات دائما إذ ليسوا جمعيا على وتيرة واحدة في التعامل مع طلابهم ـ أن إظهار الغلظة والفظاظة مما يجب الحرص  على إظهاره لتكتمل أستاذيتهم ، وعندهم أنه من خوارم هذه الأستاذية إظهار لين الجانب  لطلابهم . ومن التصرفات الصادرة عن هؤلاء تجاه طلابهم إمعانا في إهانتهم و احتقارهم ، وإذلالهم والاستخفاف بهم ما يلي :

ـ الاستنكاف عن إلقاء التحية عليهم، لأن ذلك ربما أنزلهم من أبراجهم العاجية  ومكانتهم السامية إلى الحضيض حيث طلابهم، ويصحب ذلك الاستنكاف شموخ الأنف ، ونظرة الازدراء ، ومشية الخيلاء استعلاء واستكبارا.

ـ الحديث دائما بأسلوبي الأمر والنهي على وجه الاستعلاء دون خروجهما عن مقتضى الظاهر كما يقول البلاغيون ، ويصحب ذلك ما يتجاوز مقتضيات تمثل هذين الأسلوبين من نهر، وقمع ، زمجرة ،وجحوظ عين، وتقطيب جبين .

ـ الاستنكاف عن الوقوف للطلبة إذا ما استفسروا عن شيء ما ، فلا يجيب الأستاذ الطالب إلا وهو يمشي والطالب يهرول خلفه ، وقد يبلغ الأستاذ قصده فيختفي خلف باب دون أن يتم الطالب مسألته ، وهذا من الإمعان في الإذلال . وقد يركب الأستاذ سيارته فينطلق مخلفا وراءه طلابه يرنون إليه  بأبصارهم ويستجدونه بنظراتهم  المستعطفة عسى أن يحظوا منه بالتفاتة تشعرهم بالحد الأدنى من آدميتهم التي كرمها الله عز وجل .

ـ تعمد السخرية من الطلاب إذا سألوا عن شيء، وكأنه من المفروض أن يعرفوا كل شيء ، ولو كانوا كذلك لما تتلمذوا ، ولما شدوا الرحال إلى المؤسسات العلمية  طلبا للعلم والمعرفة ، وكذلك السخرية منهم إذا ما امتحنوا حتى صارت السخرية في حكم  أوجب الواجبات بالنسبة لبعض الأساتذة حين يجلسون لمناقشة بحوث الطلبة أوأطروحاتهم ، ومن الأساتذة من لا يجيد سوى أسلوب السخرية والاستهزاء بالطلبة ، وإذا ما اعتصرت مداخلتهم أثناء المناقشة لم يحصل على طائل من ورائها . و بسادية ينتشي الأساتذة الساخرون من طلابهم خلال المناقشة بسخريتهم ، ويجدون ضالتهم في بعض الهفوات  الصادرة عن  طلبتهم ، والتي لا يلقي أصحاب رسوخ القدم في العلم إليها  بالا ، ويستنكفون عن سردها ولا يزيدون عن التلميح إليها تلميحا لا يعرض أصحابها لإهانة، بينما يقيم من لا باع لهم في العلم الدنيا ولا يقعدونها بسببها ، ويصرفون في الخوض فيها وقتا طويلا رغبة في البلوغ  بخيلائهم أقصى ما يرومونه حتى يقال عنهم إنهم قد حاسبوا طلابهم حسابا عسيرا ، وأنهم أصحاب مراس صعب أشداء ، علما بأنه ما كان اللين في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه كما جاء في الأثر.

ـ استغلالهم الطلبة الذين يناقشون أطروحاتهم لإصابة ما لذ وطاب من طعام وشراب حتى أن الأمر  يبلغ ببعضهم حد اشتراط قائمة الطعام والشراب و حتى صنف المطعم .

ـ استغلال الطلبة في قضاء حوائجهم ، واستخدامهم استخدام الخدم  أو الرقيق . وأقبح استغلال هو مساومة الطالبات في أعراضهن ومقايضتها بالنقط والنجاح ،والشواهد والديبلومات . ولا تكاد تخلو مؤسسة من مؤسسات التعليم العالي  عندنا من حكايات انتهاك الأساتذة أعراض الطالبات ، وقد نشرت وسائل الإعلام منها ما يغني عن الذكر والتفصيل .

ـ اعتماد أسلوب الانتقام من الطلاب إن هم أظهروا  أدنى إشارة إلى عزة النفس وكرامتها حين يتعرضون للإهانة ، وذلك بحرمانهم مما يستحقون من نقط وعلامات تمكنهم من  الانتقال من مستوى إلى آخر أومن الحصول على شواهد مستحقة . وكم من طالب ضاع مستقبله لأنه ثار وغضب لكرامته، ولم يرض بالدنية .

هذه بعض التصرفات الشائعة لدى بعض الأساتذة  في مؤسسات التعليم العالي  عندنا، ونربأ بخيارهم عن ذلك  وحاشاهم ،وهي غيض من فيض إذ لو فتح تحقيق جاد فيها لجاءت النتيجة بما لا يخطر على بال  من مشين تلك التصرفات والسلوكات التي تورث أصحابها المعرة ، وتجعلهم أحاديث الألسنة ، وموضوع تندر . والغريب أن أصحاب تلك التصرفات لا يجاوز نظرهم موقع خطوهم ، فلا يخطر ببالهم أن بعض طلابهم ممن كانوا يهينونهم ويتعسفون في ظلمهم ربما التحقوا بهم، فصاروا لهم زملاء في العمل أو ربما صاروا رؤساءهم المباشرين أو صاروا ذوي خبرات أكبر من خبراتهم ، واشتدت حاجتهم إليهم ، وافتقروا إلى ما عندهم من علم ومعرفة ،وحينئذ سيخجلون مما صدر منهم ويخزون به خزيا كبيرا .

وفي الأخير نأمل أن تتحرك بعض الضمائر،  وتقع القطيعة التامة مع التصرفات الشاذة الصدارة عن بعض  أساتذة التعليم العالي تجاه طلابهم والتي توارثوها  عمن كان قبلهم ،وهي من قبيل المضايقات أو " البيزوتاج " المعمول بها في المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية وهو أسلوب استقبال الجدد حاد عن هدفه كفرصة لتحطيم الحواجز النفسية لدى الملتحقين الجدد إلى فرصة التنكيل بهم  وإذلالهم ، وهو أمر مسيئ لسمعة مؤسسات رسمية محترمة . ويجدر بمؤسسات التعليم العالي أن تكون قاطرة قطارالسلوك الراقي  في المجتمع يأخذه الطلاب عن أساتذتهم. وإذا لم ينطلق السلوك الراقي من أرقى المؤسسات العلمية فمن أية جهة سينطلق ؟ وإذا لم يتواضع صاحب علم  فمن ذا الذي سيتواضع ؟  

وسوم: العدد 759