اتفاقية الغاز بين النظام المصري والكيان الصهيوني و أثرها على الأمن القومي المصري
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
في أول رد فعل لرئيس وزراء الكيان الصهيوني على اتفاقية الغاز التي تم توقيعها بين الكيان والنظام المصري، لم ينتظر نتنياهو لقاءا تلفزيونيا أو مقابلة صحفية، بل سارع إلى أقرب (وسيلة تواصل) لإعلان فرحته بتلك الصفقة. فعبر صفحته على فيس بوك نشر مقطع فيديو يظهر فيه وهو يعرب عن سعادته بتوقيع الاتفاقية واصفا يوم التوقيع بأنه يوم عيد. فقال : ( أرحب بهذه الاتفاقية التاريخية التي تم الإعلان عنها للتو والتي تقضي بتصدير غاز طبيعي إسرائيلي إلى مصر. إذ أن هذه الاتفاقية ستدخل المليارات إلى خزينة الدولة وستصرف هذه الأموال لاحقا على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية الشخصية لمصلحة المواطنين الإسرائيليين).
فرحة نتنياهو وإن كانت محقة بعد أن أصبح كيانه يصدر الغاز بعد أن كان يستورده ، إلا أن مبالغته فيها يراها البعض أنها محاولة منه للتغطية على ملاحقته في قضايا فساد و التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من أن تثبت عليه ، لاسيما وأنه قد تم القبض على أثنين من رجال الأعمال المقربين له أمس .
وقيل ما قيل عن الاتفاق الذي أبرم يوم الاثنين الموافق 19 من فبراير الجاري و بحسب ما نشر فإن الاتفاق تم بين كل من الشركاء في حقول تامار و ليفياثان للغاز الطبيعي - شركة ديلكا درلنج ( Delek Drilling ) وشركة نوبل ( Noble) من جهة وشركة دولفنز انرجي (Dolphinus Energy) المصرية من جهة أخرى . أما عن مدة العقد فهي عشر سنوات و بقيمة إجمالية تبلغ 15 مليار دولار. و حاليا تجري دراسة الإمكانات المختلفة لنقل الغاز إلى مصر، بما في ذلك استخدام خط أنابيب الأردن أو خط أنابيب شرق المتوسط ، وإن كان الحل الثاني هو الأقرب، لأنه ظل يعمل لمدة طويلة لنقل الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني قبل أن يستهدف في عمليات تفجير لعدة مرات بعد ثورة يناير في مصر، واستخدام هذا الخط من شأنه أن يوفر الغاز لشركة الكهرباء المصرية .
و حقول تامار و ليفياثان للغاز الطبيعي التي بدأ الاستخراج منها من قبل سلطات الاحتلال منذ 2010 وإن كانت تعد موردا مهما لاستهلاك الكيان من الغاز وتوليد الكهرباء ، إلا أن إنتاجية الحقول الكبيرة تسبب معضلة بالنسبة للإدارة الصهيونية من حيث تصدير الفائض. ففكرة تصدير الفائض لتركيا لم يكن مجديا اقتصاديا لاسيما مع انخفاض سعر بيع الغاز في الأسواق العالمية بعد زيادة المعروض في الأسواق والذي تزامن بعد مع زيادة الاكتشافات في الفترة الأخيرة ، كما أن الغاز الروسي المنافس لغاز الكيان الصهيوني يعد معضلة كبيرة مع المراحل النهائية لمشروع غاز السيل الجنوبي الذي سيغذي تركيا.
كما أن محاولات تصدير الغاز الصهيوني لأوربا عبر أنابيب مكلف جدا وهو ما تستبعد الفكرة مع كلفته العالية، فالدراسات التي أجرتها شركة نوبل أسفرت عن رفع سعر الوحدة الحرارية حيث يقد أنها ستباع بسعر 4.5 دولار. والنقل إلى أوروبا، سوف يرتفع السعر ليصبح فوق نطاق الأسعار المتداولة في السوق الأوروبية، وهو ما لا يمكن في مقابله أن تخفض نوبل أسعارها، وإن هي فعلت فستضطر وفقا للقانون أن تخفض السعر للسوق المحلي، وهو ما يعني خسارة كبيرة لها في ظل تكاليف الحفر والتنقيب والاستخراج والتسييل والتشغيل المكلفة لها ، وهو ما يعني أيضا أنه كان على نوبل أن تنتظر كثيرا و مع ما تمثله الأولوية لديها في تسريع المبيعات واسترداد تكاليفها لتحقيق عائدات لمساهميها. ولم يكن هذا ممكنا في المقام الأول بسبب العوامل التجارية، كما ان نقل الغاز الصهيوني لأوروبا يحتاج إلى تفاهمات مع قبرص وهو مفقود منذ ست سنوات بسبب الخلاف على حقل افروديت.
وكان الخيار المصري هو الخيار الأمثل حيث أن تكاليف التصدير تكاد تنعدم مع وجود الأنبوب الجاهز للمهمة، و مع وجود إرادة سياسية للنظام المصري في تقبل فائض إنتاج الغاز الصهيوني المهدر في حالة عدم تصديره . لكن في المقابل هناك سؤال مهم في هذا الصدد : هل مصر تحتاج للغاز الصهيوني ؟
وللإجابة على هذا السؤال يجب الوقوف على الوضع الاقتصادي للغاز المصري من حيث الإنتاج والاستهلاك والاحتياجات المستقبلية .
لقد بدأ التعامل التجاري مع الكيان الصهيوني منذ عهد الرئيس السابق حسني مبارك، وتحديدا فيما قبل اتفاقية تصدير الغاز المصري للكيان الصهيوني بسنة ، حينما كشف عن أن حقل غاز التمساح خصص وزير البترول حينها سامح شكري كامل إنتاجه للكيان ، لتوقع مصر بعدها اتفاقية لتصدير الغاز للكيان في العلن في عام 2005 والتي نصت على أن تصدر مصر بموجبها 1.7 مليار متر مكعب سنويا من الغاز الطبيعي ولمدة 20 عام ا بثمن يتراوح بين 70 سنتا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، في الوقت الذي كان سعر إنتاج الوحدة الحرارية الفعلي 2.65 دولار، ولم يقتصر الاتفاق على هذا السعر التفضيلي، بل شمله إعفاء ضريبي لشركة شرق المتوسط المساهمة بين كل من رجل الأعمال المصري حسين سالم و شركة ميرهاف الصهيونية وشركة أمبال الأميركية الإسرائيلية، وشركة بي تي تي التايلندية، لمدة 3 سنوات من عام الاتفاقية، وينقل الغاز المصري من خلال أنبوب بطول 100 كيلومتر من العريش في سيناء إلى نقطة على ساحل مدينة عسقلان جنوب السواحل الفلسطينية المحتلة على البحر المتوسط.
واستمر التصدير بالرغم من الحاجة الماسة للسوق المصري للغاز المصدر للكيان الصهيوني، والذي أثر بشكل كبير على انتظام خدمة توصيل التيار الكهربائي للمنازل ، وخدمة توصيل غاز التشغيل للمصانع. ومع استمرار الأزمة اضطرت مصر لاستيراد غاز البوتاجاز من الجزائر واستخدام المازوت بأسعار عالمية كلفت خزانتها أعباء كبيرة ، لتشغيل محطات الكهرباء إلا أن الأزمة ظلت مستمرة ، وبالرغم من إلغاء اتفاقية تصدير الغاز المصري للكيان الصهيوني عام 2012 إلا أن أزمة الغاز ومن ثم الكهرباء لم تتوقف ، وهو ما حدا بوزارة البترول المصرية أن تعلن عن نيتها إعادة شراء 1.4 مليار متر مكعب من الغاز المصدر للكيان الصهيوني لتشغل توربينات محطات توليد الكهرباء. ذلك على الرغم من أن مجلس الشورى في 2012 قد أثار قضية غاز المتوسط وطلب إعادة ترسيم الحدود الاقتصادية لضمان حق مصر في غاز تلك المنطقة ، إلا أن القوات المسلحة وقتها تذرعت بأن إثارة قضية ترسيم الحدود الاقتصادية مع الكيان يمكن ان يكون سببا لاندلاع حرب، مصر غير مهيأة لها ، مع تأكيدها على أن غاز شرق المتوسط خارج سيادة الحدود الاقتصادية المصرية .
وبحسب إحصائيات 2017 فإن فاتورة استيراد مصر من الغاز المسال تصل لنحو 2.4 مليار دولار سنويا على الرغم من أن إنتاجها من الغاز المسال بحسب نفس الإحصائية نحو 5.1 مليار قدم مكعب يوميا من الغاز الطبيعي ، إلا أنه مع ذلك لا يفي بطلبات السوق المحلي. إلا أن النظام الذي يطبق برنامجا، يراه البنك الدولي إصلاحيا، رفع بمقتضاه نسبة كبيرة عن دعم المحروقات ومن ثم الغاز و الذي أدى بعد إلى توفير كبير في تكاليف الطاقة المدعمة ومن ثم في إعادة تلك النفقات إلى دائرة الاستثمارات في مجال الطاقة ومنها الغاز .
وبحسب ورقة عمل قدمت لمؤتمر لندن بشأن الطاقة في المنطقة والذي نظمه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في يناير الماضي فإن مصر في طريقها إلى الاكتفاء الذاتي والتحول الكامل للطاقة. وتتوقع مصر أن تصبح مكتفية ذاتيا في الغاز بحلول نهاية عام 2018، مما يسمح لها بالتخلص التدريجي من واردات الغاز الطبيعي المسال، واستئناف تصديره في عام 2019. هو ما يعني أن مصر لا يمكن أن تكون زبونا محتملا للغاز الصهيوني ، بحسب تلك الدراسة.
ومع إعلان النظام المصري عن اكتشافات لحقول غاز شرق بورسعيد وتحديدا فيما سمي بحقل ظهر، والذي بدأ ضخ إنتاجه في الشبكة القومية بمعدل إنتاج مبدأي 350 مليون قدم مكعب غاز يومياً سيصل في يونيه 2018 إلى أكثر من مليار قدم مكعب يومياً فإن الدراسة الانجليزية التي تحدثت عن تحول مصر من مستورد للغاز إلى مصدر له ، مع حديث عن حقول في غرب الدلتا مما يزيد فائض السوق المصري وهو ما سيمنح فرصة لتصدير معظم ذلك الفائض بعد عام 2020 إلى أوروبا من خلال العقود القائمة والمنخفضة السعر والتي اعتادت مصر التصدير به. وهو ما يعني بالنتيجة وقف الاستيراد نهائيا بحسب ما صرح به وزير البترول في النظام الحالي في ديسمبر من العام الماضي.
هذه المعطيات تجعل من الاتفاق الذي أبرم بين النظام المصري والكيان الصهيوني لم يكن تجاريا بأي حال من الأحوال ، وينتقل بشكل جذري إلى خانة الاتفاقات السياسية ، و التي لن تخرج هنا عن إطار الترضيات السياسية والتي بالتأكيد سيكون لها مقابل.
والمقابل الذي يمكن أن يكتسبه النظام في هذا التوقيت الذي يقترب بمصر من الاستحقاق الرئاسي، هو مزيد من الدعم و مزيد من غض الطرف عن الانتهاكات التي تمارس من قبل النظام تجاه المعارضين ، لاسيما وأن فرنسا وألمانيا أبديتا انزعاجهما من تعاطي النظام مع المرشحين الرئاسيين ورؤساء الأحزاب الذين تم القبض عليهم خلال الفترة الأخيرة . لن يجد النظام أفضل من الكيان الصهيوني بشبكة مصالحه المعقدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أن يقوم بهذه المهمة.
فإن كان مفهوم الأمن القومي في الاستراتيجيات الحديثة قد شمل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأساس للأمن العسكري، باعتبار أن الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من الركائز للاستقرار داخل المجتمع، والتي تجنبه الصراعات وبالتالي تحقق أمن واستقرار ذاتي نابع من القواعد الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في الأمن والاستقرار والرفاهية، فإن الإضرار بالمقومات الاقتصادية للوطن هو انتهاك لمفهوم الأمن القومي لذلك الوطن، وبالتالي فإن الاتفاق المبرم بين النظام المصري والكيان الصهيوني يتجاوز الفعل السياسي إلى المساس بالأمن القومي لمصر من جهتين ، الأولى تتمثل في الإضرار بمستخرجات الحقول المكتشفة جديدا سواء في بورسعيد أو شمال الإسكندرية أو في غرب الدلتا والتي يقر المتخصصون أنها قادرة على الوفاء بالاحتياجات المحلية و توسعاتها ، بل وتفتح آفاق التصدير أمام المنتج المصري بعد تسييله إلى دول عدة مما يعود بالنفع على الاقتصاد.كما أن الاتفاق يجعل الإرادة المصرية رهينة الغاز الصهيوني بعد تصريح النظام المصري نيته الاعتماد عليه في تشغيل محطات توليد الكهرباء وتغذية الشبكة القومية به .
كما أن فكرة شراء النظام المصري للغاز الصهيوني والذي يدعم اقتصاد كيان من المفترض أنه لا يدخل في دوائر الدول الصديقة، أو حتى دول التعاون، يعد خرقا لنظرية الأمن القائمة على تقوية الذات وإضعاف الخصم ، وهو ما يحدث عكسه من خلال تلك الاتفاقية التي قال عنها نتنياهو أنها ستدخل المليارات إلى خزينة الكيان الصهيوني وستصرف على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية لمصلحة المواطنين في الكيان . وإن حاول رأس النظام تفادي تحمل المسئولية القانونية والسياسية، من خلال تشريع صدق عليه في أغسطس من العام الماضي يسمح للشركات الخاصة باستيراد الغاز الطبيعي. وهو ما يراه البعض كان توطئة لخطوة عقد الاتفاق الأخير مع الكيان الصهيوني ، إلا أن هذه الحيلة في النهاية لا يمكن أن تعفيه من المسئولية. أو تمر على الشعب المصري، الذي لابد أن يعاوده الربيع العربي ثانيا، ليجتثه من الجذور كما سلفه من قبل.
_________________
ياسر عبد العزيز:اعلامي وباحث سياسي،ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري سابقا
وسوم: العدد 760