هكذا يُساق الشعب الأمريكي
في أحد أفلام المخرج يوسف شاهين تَجسّدَ حلم الشباب العربي في السفر إلى ما يعتقدون أنه الفردوس الأرضي (أمريكا). وفي نهاية الفيلم ظهر تمثال الحرية وهو يتخلى عن وقاره، وبدا وجهه كامرأة غانية تغمز بعينها وتُطلق ضحكة ماجنة، في إشارة إلى الوجه الآخر الحقيقي لأمريكا والذي لا تراه معظم الشعوب.
برنارد شو، الأديب البريطاني الساخر، قد أوجز وأجاد في وصف ذلك التغايُر بين الصورة والحقيقة في الحياة الأمريكية حيث قال: «تمثال الحرية موجود في الولايات المتحدة بالذات ودون أي مكان آخر في العالم، لأن البشر عادة لا يقيمون التماثيل إلا للموتى».
وصدق، فالحرية في أمريكا محض وهم، فهي تخضع للنسبية البغيضة، والواقع يشهد أن أمريكا عبثت بحريات الشعوب، والحرية لديها كصنم من التمر، لكن أشد ما يُظهر فيه الاستبداد السياسي داخل أمريكا نفسها، هو سوْق الشعب كالقطيع بصورة ناعمة عبر تغييب الوعي وعزل العقلية الأمريكية وتقوقعها.
في بلادنا العربية تُساق الشعوب بالعصا والجزرة، وفي أحيانٍ كثيرة بالعصا دون الجزرة، يدعمها إعلام موالٍ للسلطة وظيفته التبرير لسياسات النظام، وظهير شعبي تُحركّه النفعية أو الجهالة.
وفي إيران يُساق الشعب بأكذوبة الولي الفقيه، يدعمه السوق الإيراني (البازار) الذي يُشكّل القوة الاقتصادية الضاربة في الجمهورية، يسيطر عليه التيار المحافظ الذي يُمثل الرؤية التي تتبناها المؤسسة الدينية.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فيُساق الشعب بشكل مختلف تماما، وربما يُصدم بعض القراء إن قلت أن الشعب الأمريكي أبعد الشعوب عن المشاركة في صنع القرار السياسي، وأنه يعيش بمعزل عن العالم، وتأثيره ضعيف في مسار الحياة السياسية، ويُساق سوْقا خلف الدعاية الأمريكية لتحركاتها العبثية في أصقاع الأرض.
وبذلك قد نفهم ذلك الصمت المُطْبق للشعب الأمريكي حيال عربدة إداراته في دول العالم، من دون أن نشهد ما يعبر عن سخط شعبي حيال هذه العربدة، وذلك لافتقاد الوعي السياسي والثقافي، بخلاف الشعوب الأوروبية التي تتابع مجريات الأحداث في الداخل والخارج ولديها القدرة على التحليل والربط، والفاعلية اللازمة للتأثير على القرار السياسي وفق قيم التحضر والتمدن والحريات والعدالة.
النخبة السياسية الأمريكية تُحرّك وتُجيِّش وتُعبئ الشعب للسير خلف قراراتها السياسية عبر آلة إعلامية ضخمة، ولا يرى الشعب الأمريكي سوى إعلامه، ولا يتلقى في الغالب إلا من خلال وسائل الإعلام الأمريكية التي حاصرت الشعب وعزَلَتْه عن العالم.
لن تأخذنا الدهشة حيال صمت الشعب الأمريكي تجاه جرائم قياداته في شتى بقاع العالم والسياسات الخرقاء الهمجية التي ينتهجها ساستُه، إذا علمنا ضعف ثقافة الشعب الأمريكي، خلافًا للصورة الذهنية لدى العرب عن الأمريكان.
في دراسة أجرتها مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» الأمريكية في مطلع القرن الحالي، تبين أن 83% من الشباب الذين أجريت حولهم الدراسة لا يستطيعون تحديد موقع أفغانستان على الخريطة، في وقت كانت القوات الأمريكية تحرق أرض أفغانستان لإسقاط حكم طالبان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ايلول.
وأما الكيان الصهيوني المُحتل الذي يسمى بالدولة الإسرائيلية – الحليف الرئيس للأمريكان – فإن الدراسة نفسها أثبتت أن أكثر من نصف الشباب الأمريكي لا يعلم أين تقع تلك الدولة اللقيطة جغرافيًا، في الوقت الذي لا تكفُّ قيادتهم عن دعمها على حساب الأمة الإسلامية والعربية بأسرها.
مستشار الأمن الأمريكي الأسبق برجينيسكي بدوره صرح في كتابه «الفوضى» بأن عدد المواطنين الذين يعيشون في أمريكا في جهل تام يصل إلى 23 مليون مواطن.
لارا دريك أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية ومديرة المركز الاستراتيجي لدراسات الشرق الأوسط في واشنطن اعترفت أن الشعب الأمريكي هو الأكثر جهلا على الأرض.
إن أكثر المواد الإعلامية التي تحظى باهتمام معظم الأمريكان هي برامج التسلية والترفيه وأخبار هوليود ومتابعة فضائح الرؤساء والمشاهير.
الشعب الأمريكي صاحب عقلية استهلاكية طاغية تنطلق من ضرورة الإشباع الفوري الذي لا يتخطى سطح المادة، بعيدا عن المُثل العليا التي تضبط المسافة بين «المثير والاستجابة»، حسب تعبير العالم الموسوعي عبد الوهاب المسيري.
الشعب الأمريكي يعيش اللحظة فقط عن طريق إدراكه بالحواس، فقد استطاع الإعلام الأمريكي إبان حرب فيتنام، غسيل أدمغة الشعب، وإقناعه بضرورة التدخل العسكري، فكان هناك تأييد جماهيري رهيب لهذه الحرب، استطاع الساسة تعبئة الشعب بأسره، حتى غدا الالتحاق بالجيش شرفا كبيرا يسعى إليه الشباب، ولم يُدرك الشعب الأمريكي تلك الخديعة إلا من خلال حواسه أيضا دون نظرة متفحصة سابقة، عندما وصل إلى الولايات المتحدة جثمان حوالي 15 ألف أمريكي لقوا حتفهم في تلك الحرب، ورآهم الشعب بعينه.
من خلال الانغماس في تلك الطبيعة الاستهلاكية والعيش بلا ذاكرة تاريخية، وبسبب عزلة المواطن الأمريكي، تمكنت النخبة من استجهال ذلك الشعب والسيطرة عليه.
إنها صورة أخرى من صور الاستبداد السياسي الذي يمارسه الساسة، لكنه في النموذج الأمريكي بعيد عن الشكل القمعي المعتاد في الدول العربية، وإنما يأخذ شكل التغييب والاستجهال والإغراق في المادية والحصار المعرفي والثقافي، ولذا لا نبالغ إن قلنا إن أمريكا على مكانتها وقوتها، تعاني من انفصال بين الشعب والقيادة السياسية، والشعب الأمريكي لا يرى إلا ما تريه النخبة السياسية والإعلامية.
وسوم: العدد 765