تهافت فكرة إمكانية أن يتجاوزالواقع الإسلام التي يرددها بعض المحسوبين على التيار العلماني
استغل بعض المحسوبين على التيار العلماني عندنا النقاش الذي أثير مؤخرا حول قضية الإرث للتعبير صراحة ووقاحة بأن الواقع يمكنه تجاوز الدين لأن الواقع متغير بينما الدين ثابت ،ولا يمكن في نظرهم أن يتحكم الثابت في المتغير، بل العكس هو الصحيح . ويريد هؤلاء تعطيل العمل بتشريع " للذكر مثل حظ الأنثيين " وتشريع "التعصيب" في الفرائض بذريعة أن جديدا جد في حياة الناس اقتضى ذلك، تماما كما جد من قبل في حياتهم ما جعلهم يعطلون التشريعات الخاصة بملك اليمين ، أو بالحدود ، أو بالجهاد . والذي يفهم من كلام هؤلاء العلمانيين أن عرى الإسلام ستنقض عروة عروة حتى لا يبقى منها شيء ، وحينئذ سيستقيم الأمر للعلمانية التي تعتبر حسب تهافت منطقهم ثابتا سيتحكم في المتغيرات الطارئة أو يسايرها خلاف ما يعتقدون عندما يتعلق الأمر بالإسلام كثابت تتحكم فيه متغيرات الواقع . ولا ندري أي منطق يحكم تفكير هؤلاء ، فإذا كان المتغير يتحكم في الثابت ، وجب أن ينطبق هذا على كل ثابت ،ولا يستثنى من ذلك ثابت مهما كان . وإذا ما نفى العلمانيون صفة الثبوت عن علمانيتهم سقط في أيديهم، لأنهم يدعون إلى متغيّر لا يعرف ما سينتهي إليه، ودعوتهم حينئذ عبارة عن مجازفة أو مغامرة لا يعرف ما يترتب عنها من عواقب . وإذا كانت العلمانية من المتغيرات ،فهي مساوية في ذلك غيرها من المتغيرات .والمتغير مصيره الزوال، لأنه لا يتغير من حال إلى حال إلا بزوال حال وحلول أخرى محلها .
والقول بتحكم المتغير في الثابت ينفي وجود الثابت أصلا، والذي لا يمكن أن يكون كذلك مع وجود المتغير حيث يتأثر ثبوته بتغير المتغير ، فيصير متغيرا بدوره. والقول بأن الإسلام ثابت تتحكم فيه متغيرات الواقع هو نفي له ، لأنه يصير بذلك متغيرا بدوره ، ولا يدوم على حال بل ينتقل من حال إلى حال ، وهو ما يريد العلمانيون إثباته من خلال مثال انتهاء العمل بتشريع ملك اليمين، وبتشريع الحدود ، وتشريع الجهاد. أما تشريع ملك اليمين في الإسلام، فواضح وضوح الشمس أنه كان يهدف إلى إنهاء سلوك طارىء على البشرية حيث خلق الله عز وجل البشر سواسية في الحرية ، فطرأ على هذا الحكم الإلهي الثابت متغير، وهو استعباد البشر بعضهم بعضا ، فتعامل الإسلام مع هذا الأمر بواقعية إذ لم يكن ممكنا أن يعدل الناس عن وضع اجتماعي ألفوه زمنا طويلا بين عشية وضحاها ، فكان لا بد من التدرج في تغييره لينتهي إلى الزوال . وقد تعامل الإسلام مع سلوكات أخرى بنفس الطريقة، نذكر منها سلوك معاقرة الخمر حيث تدرج في تغييره حتى انتهى به إلى التحريم . والرق والخمر من الآفات الاجتماعية التي عرفتها البشرية ،وتبين ضررهما ، فغيرهما الإسلام بالتدرج ، وكان حكيما في ذلك حيث ربطهما بالعبادة مباشرة لصرف الناس عنهما ، ذلك أن المخل بعبادة الصيام يصحح إخلاله بعتق الرقبة ،وكذلك شأن الحانث في يمينه ، والسكران لا يمكنه أداء فريضة الصلاة ، وبهذه التشريعات ذهب الإسلام بالرق والسكر إلى انتفائهما من المجتمع الإسلامي تدريجيا . ولا يمكن أن تقاس عليهما الحدود كحد الزنا وحد السرقة ، وحد القذف ، وحد شرب الخمر ، وحد الحرابة ، لأن هذه الحدود تمنع وقوع آفات . وإذا ما عطل الناس في بلاد الإسلام تطبيق هذه الحدود، فالجديد في حياتهم أنهم خضعوا لأمم غالبة فرضت عليهم تشريعاتها وقوانينها وفق منطق المغلوب يتبع الغالب، ويخضع له . وتغيير الحدود التي شرعها الإسلام وإحلال حدود أخرى محلها عبارة عن تشجيع لآفات منع وقوعها في المجتمع المسلم . ويشهد الواقع أن تعطيل حدود الإسلام انتهى إلى إضفاء الشرعية على الجرائم كجريمة الزنا التي صارت عند العلمانيين علاقة جنسية رضائية ، وعلاقة جنسية مثلية ، وانتقلت من خانة الممنوعات والمحرمات إلى خانة المباحات المسموح بها . ولم تمنع العقوبات الوضعية التي حلت محل حد السرقة في الإسلام من منع جرائم السرقة، لأن الأيدي التي لا تقطع لا يمكن أن تمنع .
وقول العلمانيين أنه قد جد في حياة الناس ما عطل الحدود التي فرضها الإسلام يوحي بأن الناس قد طبعوا مع الجرائم التي وضعت تلك الحدود لردعها ومنعها ، ولم تعد عندهم جرائم بل صارت سلوكات مقبولة ، بل صارت مطالب وحقوق يدافع عنها ويطالب بها كما هو الشأن بالنسبة لجريمة الزنا . وأما الجهاد فلم يعطل كالحدود وإلا فما معنى مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الصهيوني ؟ وما معنى مقاومة المغرب للاحتلال الفرنسي والإسباني ؟ وما معنى مرابطة جيشه على ثغوره في ربوعه الجنوبية في صحرائه المحررة ؟ ولا يمكن لفريضة الجهاد أن تعطل طالما ظلت ربوع الإسلام معرضة للغزو والاحتلال كما حدث في العراق وفي أفغانستان . ومن يضمن لبلادنا وغيرها من بلاد الإسلام لا قدر الله ألا تكون هدفا للغزو والاحتلال مثل العراق وأفغانستان، لهذا لا يمكن أن يقاس الجهاد على الرق ، ويحكم عليه بالزوال مع احتمال حدوث ما يفرضه .
وإذا كان الأمر كما يراه العلمانيون من تجاوز الواقع للإسلام ، فإن إرسال الله عز وجل رسالاته إلى البشرية لتنظيم حياتها عبر التاريخ كان مجرد عبث ـ تعالى الله سبحانه عن العبث وعما يصفون ـ لا داعي لها. وإذا كانت الرسالات السماوية السابقة لرسالة الإسلام الخاتمة تلتقي جميعها في توحيد الله عز وجل ، وهو من الثوابت غير القابلة للتغيير مهما يطرأ على حياة البشر من مستجدات ومتغيرات في أمر معاشهم ، ولا ينكر ذلك إلا مكابر ، فإن بعض تشريعات تلك الرسالات كانت خاصة بمن ترسل إليهم حسب ظروفهم ،بينما رسالة الإسلام الخاتمة قد وجهها الله عز وجل إلى الناس كافة إلى قيام الساعة ، وضمنها من التشريعات ما لا يمكن أن تتجاوزه البشرية ، وما ينسحب على حياتها بكل ما يجد فيها .والحكم على تشريعات الرسالة الخاتمة بأنه يمكن تجاوزها يتضمن نفيا لخاتميتها وعالميتها ، وتكذيبا لها ،بل أكثر من ذلك يتضمن وصف الخالق سبحانه وتعالى بالتقصير في التشريع بل بالجهل وهو علام الغيوب بما سيجد ويطرأ على حياة الناس مما يقتضي تشريعات أخرى غير التشريعات الواردة في هذه الرسالة الخاتمة . والقول بهذا تشكيك فيها بل نفي وإنكار لها ، وهو ما يخفيه العلمانيون عندنا نفاقا خلاف العلمانيين في البلاد العلمانية في انتظار أن تسنح لهم الفرصة لإبداء ما يخفونه . ومنهم من صار يعلن عن ذلك جهارا نهارا مستغلا شعار حرية التعبير ، وحرية الاعتقاد ، ومستغلا غض الطرف الذي تنهجه الدولة معهم، والتي عليها تقع مسؤولية حماية الثوابت ، وعلى رأسها الدين الإسلامي الرسمي وفق فقرة واضحة الدلالة في دستور البلاد التي صوتت عليه الأمة صاحبة القرار . ولا يجرؤ العلمانيون عندنا على ثابت من ثوابت الأمة التي نص عليها الدستور،و تفرض الدولة احترامها وتعاقب أشد العقوبة من يتجرأ عليها كجرأتهم وتجاسرهم على الإسلام ، وهو أول الثوابت . ولا يجدر بالدولة أن تقصر في مسؤولية منع جرأة وتجاسر العلمانيين على الإسلام كأهم ثابت من ثوابت الأمة ، وهي ترفع شعار دولة الحق والقانون ، علما بأن أعلى قانون فيها هو دستور يجعل الإسلام دينها الرسمي ،وثابت من ثوابتها ، وفيها وزارة مختصة بالشأن الديني دون غيرها من الوزارات ، وهي وزارة تتوفر على مؤسسات دينية وعلمية تحت الرئاسة المباشرة لإمارة المؤمنين الفعلية ، وهي وحدها المخول لها قانونيا الحديث باسم الإسلام ، والخوض في قضاياه وأموره وفق قواعد وضوابط شرعية ليست من اختصاص أية جهة مهما كانت . ومن العبث محاولة الخوض في قضايا دين الأمة عن طريق توقيع العرائض من طرف جهات تصف نفسها بالوازنة استعلاء على كل شرائع الأمة ،علما بأنه لا علو ولا استعلاء لشريحة اجتماعية على أخرى في البلاد ، كما أن الوزن المعتبر في مجتمع مسلم يكون بعلم العلماء الراسخة أقدمهم في العلم الصحيح بالإسلام والموثق وفق ضوابط أجمع عليها أئمة الإسلام وفقهائه . ولا يليق ولا يحسن بالدولة أن تسمح بالتجاسر على علماء الأمة وفقهائها، لأن ذلك يعني التساهل مع المتجاسرين على هوية الأمة الدينية التي يجب على كل من ينتسب إليها أن يحترمها رغم أنفه . وعلى الدولة أن تبادر إلى سن قوانين صارمة تمنع بل تجرم الخوض في أمور الإسلام وفق الأهواء ، وتجرم التجاسر عليه وعلى علمائه وفقهائه ، وتجرم توقيع العرائض المطالبة بتعطيل شرع الله عز وجل ، وإحلال شرائع الأهواء محلها لإرضاء شرذمة علمانية متنكرة للإسلام ولهويتها الإسلامية . وكل تساهل مع تجاسر هذه الشرذمة التي تصف نفسها بالوازنة استعلاء على الإسلام كثابت يعتبر تساهلا مع تجاسرها على باقي الثوابت التي هي دون ثابت الإسلام،والذي يجمع أمر هذه الأمة الذي لا يجتمع بدونه أبدا.
وأخير نحذر من إرخاء العنان لتجاسر العلمانيين على الإسلام ،لأن ذلك ينذر بالويل والثبور وعواقب الأمور ، ولأن الأمة المغربية المسلمة لن تقبل من أي كان أن يعبث بمشاعرها الدينية ، أو يمس بهويتها الإسلامية ، ولن تتساهل قيد أنملة في ذلك أبدا.
وسوم: العدد 766