رمزية قطع الفلسطينيين للأسلاك الإسرائيلية الشائكة
" عائدون ! عائدون ! إننا لعائدون
الحدود لن تكون ، والقلاع والحصون
فاصرخوا يا نازحون : إننا لعائدون ! "
مقطع من نشيد رددته قلوب الفلسطينيين قبل حناجرهم في خمسينات وستينات القرن الماضي . كان النشيدَ الذي يبدأ به اليوم في كل مدرسة في غزة ، وهو من كلمات هارون هاشم رشيد الذي غنى آلام الفلسطينيين وأحزانهم لاغتصاب وطنهم ، وغنى آمالهم وأحلامهم بالعودة إليه . كان جرحهم الكبير يومئذ جديدا نازفا ، وكان ذهولهم لاغتصاب وطنهم في كبر جرحهم وكبر ألمهم ، وفي كبر الجرح والذهول كان الأمل والحلم بالعودة إلى بيوتهم وحقولهم التي مازالت صورها في عيونهم ، ورائحتها في أنوفهم ، ووهج حبها في قلوبهم . لم يصدقوا أنهم سيفارقونها بلا عودة . مستهجن وليس قابلا للتصديق أن تطرد من وطنك الذي ليس لك أرض سوى أرضه ولا سماء سوى سمائه . جريمة فريدة في التاريخ الإنساني ، وعلى كثرة مجازر الغزاة المستوطنين في حق أهل البلاد الأصليين في بقاع العالم الأخرى فالذي آلت إليه الأمور أن الطرفين تعايشا في النهاية معا . ما حدث في فلسطين اختلف كليا . المستوطنون الذين جاؤوا مهاجرين أنكروا كل حق لأهل البلاد الأصليين ، وزعموا أن لهم ماضيا ذا قيمة فيها ، وأصروا على سحق أسس وجود أهلها الأصليين ، فاغتالوا البشر والحجر والشجر ، حتى الأسماء اغتالوها . مستوطنو دولة كندا اختاروا اسمها من لغة أهل البلاد الأصليين ، ويعني ( القرية ) . الصهاينة أصروا على عبرنة الأسماء العربية للمدن والقرى والشوارع في فلسطين مع أن أكثر من 60 % من مفردات لغتهم المهجنة عربية الأصل معنى ومبنى وشبه نطق ، ويرى بعض اللغويين أنها إحدى لهجات العربية . نشيد هارون في حينه أكد ثقة الفلسطيني في حتمية وشرعية عودته إلى أرضه ، ويتجلى التوكيد في عاطفة الشاعر القوية المتفجرة في قوة الحمم العاصفة ، وفي ألفاظه بتكرير " عائدون " مرتين ، وفي التوكيد ب " إن واللام " في " إننا لعائدون " . وجاءت صاعقة هزيمة 5 يونيو 1967 العربية صدمة كبرى ، ونكبة ثانية زلزلت الثقة والأمل الفلسطينيين في حتمية العودة إلا أن الروح الفلسطينية الحديدية تعافت من عنف الصدمة وضراوتها بسرعة ، واندفعت في غزة تتصدى للاحتلال منذ الشهر الأول ، وقال المراسل البريطاني فيها توم ليتل شاهدا على فاعلية تصديها إنها محتلة نهارا ، محررة ليلا ؛ لخوف قوات الاحتلال من التحرك فيها ليلا ، ولِما كان في تقاريره من تشهير بالاحتلال طردته إسرائيل من غزة . وقال أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل في ذلك الزمان ، وذو الأصل الأفريقي الجنوبي إن إسرائيل كانت أكثر أمنا قبل احتلال الضفة وغزة ، وحررت المقاومة غزة التي قال عنها مناحيم بيجن في ميدانها الرئيسي ، ميدان فلسطين ، إنها لليهود .وها هي مسيرة العودة تجتاز جمعتها الثانية مركزة الأضواء والاهتمام في كل العالم على حقيقة مأساة اغتصاب الوطن الفلسطيني ، والآثار المخيفة لهذا الاغتصاب ، وفظاعة جريمة المغتصب الصهيوني ومن آزره في هذه الجريمة . علقت مسيرة العودة ، ويريد بعض الفلسطينيين تسميتها ثورة العودة ، إسرائيل من رقبتها ، وجمدتها عاجزة مشلولة ، شاردة البصيرة ، زائغة البصر ، لا تعرف كيف تواجه هذا التحدي الفلسطيني المقتحم ، وصدم وعي الإسرائيليين منذ أيام بعد أن علق بعض فلسطينيي الداخل صورة لخمسة من شهداء الانتفاضة فوق برج في تل أبيب ، ومستوطنو غلاف غزة يفرون إلى الداخل ، والجنود خلف السواتر الترابية فزعو القلوب ، مرتجفو الأيدي يتوجسون خيفة مما قد يحدث لهم في كل لحظة من الجماهير الفلسطينية التي تموج أمامهم حماسة وحيوية مع كونها بلا سلاح مهما صغر . ويحقق شبان المسيرة بدمائهم استشهادا وإصاباتٍ ما أصر عليه منذ عقود شاعر نشيد الثقة بحتمية العودة ، فيقطعون الأسلاك الشائكة التي أرادتها إسرائيل البشعة حاجزا بينهم وبين أرضهم في رمزية كبيرة ساطعة تقول : " الحدود لن تكون ، والقلاع والحصون " ، وهم الآن لا يصرخون رفضا للحدود والقلاع والحصون ، يقطعون بعضها فعلا ، ولقطعه ما بعده . ستتغير أحوال كثيرة في المنطقة بعد مسيرة العودة التي تتفجر قوة وأملا لدى الفلسطينيين ، وصدمة وذهولا وعجزا لدى الإسرائيليين ، وكم من حوادث بدت عادية في مستهل اتقاد شرارتها الأولى صنعت تحولات تاريخية كبرى !
وسوم: العدد 767