إسرائيل وحق العودة للاجئين الفلسطينيين
شكلت فعاليات مسيرة العودة المتواصلة منذ الثلاثين من مارس الماضي كابوسا مرعبا لإسرائيل ، لم تنفع في صد رعبه عنها كثرة الإصابات والاستشهادات في صفوف المشاركين في المسيرة ، ولا اللين الذي بدر منها في زيادة مساحة الصيد من 6 إلى 9 أميال بحرية لصيادي غزة لفترة اختبارية من ثلاثة أشهر ، وفي مخاطبة وزير دفاعها ليبرمان للغزيين ب " جيراننا الجنوبيين " ؛ ذلك أن دوافع مسيرة العودة أكبر من أن تردعها كثرة الإصابات والاستشهادات ، أو يغريها اللين الإسرائيلي الضحل العابر الذي يدعي منح أهل غزة ما هو حق طبيعي لهم مثل حرية الصيد في بحر يخصهم وفق قوانين ضوابط الحركة والصيد في البحار الوطنية والدولية . مسيرة العودة تستهدف العودة إلى الأرض التي سرقت من أجداد وآباء المشاركين في المسيرة ، وبعض هؤلاء الآباء والأجداد مازالوا أحياء ، ومنهم من يشارك فيها ، ويُسمِع الإسرائيليين السارقين والعالم صوته . وغزة تختلف عن الضفة في كون اللاجئين فيها أكثر من المواطنين ، وهذا جعلها دائما مكانا مختلفا في تصديه وتحديه لإسرائيل بما يتجاوز أفق الوطنية الفلسطينية الموحد للشعب الفلسطيني . وكثير من المشاركين في مسيرة العودة تفصله عن أرضه المسروقة كيلومترات قليلة ، ومنهم من تفصله أمتار ، فكيف يتوقع منه أحد نسيانها ؟! وكيف يقترح عليه آخرون تسهيل هجرته إلى بلد آخر ؟! اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين مخلفين ظروفا معيشية جيدة ، بل ممتازة ، يبدون عاجزين عن فهم ظاهرة تشبث روح الفلسطيني بالعودة إلى أرضه ، ويتوهمون أنه قد يقبل بديلا عنها مثلما قبلوا هم بديلا عن أوطانهم الأصلية ، وهم حتى في هذه الحالة – حالة هجرتهم الطوعية إلى فلسطين التي يسمونها إسرائيل _ أحرار في العودة إلى الأوطان التي هاجروا منها ، وبعضهم يحتفظ بجنسيتها _ ويقابل حريتهم هذه ، وثنائيتهم الجنسية ، حرمان الفلسطيني حرمانا مطلقا قاطعا من حق العودة إلى أرضه ، وفوق هذا الحرمان لاحقته إسرائيل في غزة والضفة باحتلالها لهما احتلالا دخل عامه الحادي والخمسين ، وهي تبني المستوطنات في الضفة تهويدا للأرض ، وتحاصر غزة ، وتشن عليها الحروب ، وتهاجمها هجمات متقطعة بين حين وحين ، وتريد من الفلسطيني فيهما أن يسكت على شرورها وجرائمها ، وهذا مخالف لطبيعة البشر . وإسرائيل بهذه العقلية والمسلكية تسير في طريق خاسر لكون بدايته خاطئة أساسا ، وما بُدىء خطأ يظل خطأ ما لم يُتَدارك في الوقت الصحيح . ونجحت القوة العسكرية والانتصارات التي أنجزتها إسرائيل في حروبها مع بعض العرب في مواراة أضرار هذا الخطأ ، وتأخير مفاعيل عواقبه السيئة عليها . ويبدو أن زمن المواراة انتهى بتأثير الانتكاسات الإسرائيلية في حرب 1973 ، وفي حرب 2006 مع حزب الله ، وفي حروب غزة الثلاث . ومنذ أيام نشر في إسرائيل تقرير معمق يتحدث عن أثر تلك الحروب وسواها من العوامل في ضعضعة معنويات الجيش الإسرائيلي ، وفقدانه لسمات الانضباط ، وعزوف جنوده عن الحرب ، ويقول جندي في التقرير إنه يتصبب عرقا كلما علم أنه سيذهب للخدمة في حدود غزة خوفا مما قد يصيبه فيها قتلا أو جرحا أو أسرا . وتأتي الآن مسيرة العودة زخما إضافيا كبيرا يرفد تأثير سلبيات حروب الانتكاسات الإسرائيلية . فهذه المسيرة تدفع إسرائيل مرغمة إلى النظر في ما حرصت على تجاهله والتعامي عنه متوهمة أن الفلسطيني يمكن أن يسلم بسرقة وطنه ، وأن القوة كافية لإجباره على هذا التسليم ، وأن الزمن سينسي الأجيال الفلسطينية وطن أجدادها وآبائها ، وطنها ، وأن تخفيفا هنا ، وتخفيفا هنا للظروف المعيشية في غزة سيخمد إصرار الفلسطيني الحازم على استعادة أرضه ، وحقه في الحياة السوية المطمئنة . وفي إسرائيل ، قبل المسيرة ، وقوي ذلك بعدها ، أصوات متنوعة تدعوها إلى التعقل ، ونبذ التجاهل والتعامي تجاه المحنة الكبرى التي نكبت بها الفلسطينيين ، فكتب توم بيساح في مجلة " 279 + " مقالا يدعو فيه إلى الاعتراف الكامل بحق الفلسطينيين في العودة ، وتنضاف إلى هذه الأصوات الإسرائيلية أصوات في أوروبا وأميركا ، بعضها يهودي ، مثل الأميركي ريتشارد سيلفرستاين الذي اعتبر اعتراف إسرائيل بحق العودة للفلسطينيين إنقاذا لإسرائيل نفسها ، وجاء هذا في مقال كتبه في " تيكون عولام " ، ووصف طردها لمليون فلسطيني في حرب 1948 بخطيئة أساسية . ترى هل تملك إسرائيل القدرة السياسية والأخلاقية على الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين ، ولو بكيفية أقل مما يطمحون إليه ؟! مشكوك في قدرتها على هذا مهما دفعتها الأحداث للنظر في ما نكبت به الفلسطينيين لاعتقادها بأن في عودتهم زوالها كدولة يهودية ، وأنهم لا حق لهم في هذه العودة ، وستستمر في التعايش مع خطأ إقامتها إلى مدى لا يعلمه سوى علام الغيوب ، وستظل غزة خاصة شوكة في حلقها ، وخنجرا في خاصرتها ، مهما كانت مآسي غزة وآلامها .
وسوم: العدد 768