التعايش بين صندوق الذخيرة وصندوق الاقتراع!

شكا صديق من تصرفات بعض الناس الذين يعرفهم وكانوا قريبين إليه. قال الصديق: لاحظت منذ سنوات ثلاث أو أربع مقاطعة بعض تلاميذي وأصدقائي. لا يتصلون بي، ولا يزورونني ولا يسألون عني. فأنا استاذهم وزميلهم، وفي مرتبة الأب الوالد والأخ الأكبر، وصاحب اليد الممدودة دائما للعون والمساعدة، ثم إنني في مرحلة أحتاج فيها لمن يذكرني بعد أن طعنت في السن، وتكاثرت أمراض الشيخوخة، ولم أعد قادرا على مغادرة البيت إلا إلى الطبيب.

قلت : لعل لهم أعذارهم بالضرورة، ولكل منهم ما يشغله.

قال: لا، إنهم أذكياء، ويعلمون أن الاقتراب مني الآن مكلّف.

استوضحته؛ فقال: إن لي قريبا، تتهمه السلطة بالانتماء للإخوان الإرهابية، مع أنه طول عمره يخشى الله، ولم يؤذ أحدا، ولا يقدر على ذبح دجاجة، ولم ينتم لأي تنظيم في حياته. هؤلاء يخافون على أنفسهم فابتعدوا, يخشون أن يكون الصديق محل شبهة بالتبعية لدى الجهات المعنية!

أسفت من أجل صديقي، وسرح بي الخاطر إلى ما يجري داخل المجتمع الكبير من انقسام حاد، شمل النخب والقوى الاجتماعية والمؤسسات المختلفة، بل العائلات والأسر، مع ازدهار مهنة البصّاص الذي يتطوع بالإبلاغ عمّن هم في دائرته ممن لا يؤيدون السلطة العسكرية أو يظن أنهم لا يؤيدونها! فالنظام ينشر على مدار الساعة أرقام هواتف الجهات الأمنية التي تتلقى بلاغات المواطنين عن المعارضين، وكانت عمليات التصويت القسري في الانتخابات الأخيرة فرصة لهؤلاء البصاصين كي يشوا بالأبرياء والبسطاء. وفي سياق حالة الذعر السائدة فقد أمسكوا منذ أيام بشخص قريبا من إحدى الكنائس في احتفالات عيد القيامة ظنا أنه إرهابي، واكتشفوا بعد حين أنه متسول!

فلسفة الذعر أو الخوف أو الرعب تحكم الشعب المصري، وتجعله يفضل أن يقف مع الجانب الأقوى، أو يستخدم النفاق، وهو ما فعله تلاميذ واصدقاء الزميل الذي شكا من ابتعادهم عنه، مع أنه لا علاقة له بالسياسة أو من يمارسونها!

لا ريب أن بلادنا العربية والإسلامية تعيش في رحاب صندوق الذخيرة، وهو صندوق لا يفكر في المستقبل، ولا يؤمن بالتخطيط، ولا يتقبل الرأي المخالف، ولا يعيش في ظل الدساتير والقوانين. وضربته الغاشمة مدمرة على كل حال، ولا يعنيه أن يوائم بين الضرورات والواقع أو الاعتبارات، فلا مانع لديه، أن يختطف رئيس الدولة المنتخب، وقائدا بارزا في الحروب الكبرى التي عاشتها البلاد، ومفكرين وقادة ومهنيين ومن على شاكلتهم، فلغة القوة الغاشمة هي اللغة الوحيدة، وفي سبيل استمرارها، وإقناع العالم بها؛ يتم تجنيد الأبواق والمرتزقة والإغداق عليهم لتسويغ ما يقوله صندوق الذخيرة وإقناع الناس بسلامته حتى لوكان مخالفا للدستور والقانون، مع قمع الرأي الآخر والمخالف وعدم السماح له بالتعبير عن نفسه أو التحاور معه.

صندوق الاقتراع الحر لغته ناعمة مسالمة، تفرض التنافس السلمي لخدمة الوطن وبذل الجهد من أجله برغبة حقيقية، لا مكان فيها للقسر أو الإكراه، ويذهب الناس إليه بإرادتهم الحرة لا ترهيبا ولا ترغيبا، وقد رأينا في انتخابات 2012 طوابير المواطنين تمتد إلى مسافات طويلة منذ بداية فتح الباب صباحا حتى إغلاقه مساء، ونسبة الشباب عالية وفائقة، ولا حاجة لهم بتكاتك أو سيارات تنقلهم إلى اللجان، ولا إنفاق من حزب اللحى التايواني، ولا مجال لتهديد بغرامة أو إغراء بشنطة تموين، ولا نداءات مآذن المساجد، ولا تحذيرات أمنية للمدارس والمصانع والمؤسسات...

صندوق الذخيرة يرفض الشحناء والبغضاء والصراع الدامي الذي يدمر البشر والحجر( انظر ما جرى في العراق وسورية واليمن وليبيا)، ويستنزف ميزانية ضخمة للتسليح وأدوات التعذيب والتنصت والتجسس وبناء السجون، وتخوين القريب والبعيد، وظلم عباد الله الأبرياء بالقتل أو الاعتقال أو المطاردة، وحجب المشاركة الشعبية في حل مشكلات الوطن، وتدخل القوى الكبرى لتقاسم تورتة الوطن في شكل احتلال سافر أو اتفاقيات مجحفة بالشعوب، أو نهب ثرواتها ومياهها..

صندوق الاقتراع يأتي بأفضل ما يمكن من الأفراد الذين يخدمون الوطن، ويكفل عملية تصحيح ذاتية أولا بأول، ومن يفشل في مرحلة يأتي من هو أقدر منه في المرحلة التالية، ويوفر الصندوق مبالغ استيراد أدوات التعذيب والغازات المسيلة للدموع، والتجسس على الشعب- على الأقل التقليل من الكميات المستوردة!

وفي كل الأحوال فإن صندوق الاقتراع يوجه كل مسئول إلى تخصصه الذي يجيده، فالمعلم مثلا لا يقوم بدور الطبيب، والمهندس لا يضطلع بمهمة الخباز، ورجل الشرطة لا ينهض بدور السياسي وأمين التنظيم، والجندي المقاتل على الحدود وحفظ مصادر المياه، لا يمارس دور المنظر الفلسفي في الأدب والطب والتخطيط العمراني .. وهكذا..

وفي النهاية صندوق الاقتراع الطبيعي يتيح الفرصة للتعايش بين طوائف الشعب المختلفة وفئاته المتعددة، ولا يحرم أحدا من وطنه وشرفه إلا بالدستور والقانون واللوائح التي وضعها الشعب سيد الناس جميعا، أو الجهة السيادية الوحيدة التي يجب تسميتها بهذا الاسم.

في الأسبوع الماضي تبارى نعال السلطة في التطوح دون وضوء داخل حلقة ذكر غير طاهرة؛ حول ما قيل عن المصالحة مع الإخوان أو المتعاطفين معهم. نسي هؤلاء أن المصالحة مطلوبة بين الشعب كله وصندوق الذخيرة؛ الذي تتحكم فيه قوى دولية وإقليمية ومحلية ذات مصالح.

قال نعال البيادة لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض! تنافس من جاءوا من الوضاعة مع من عملوا شماشرجية للأعراب والأغراب في شيطنة الشعب المصري، وإن كانوا يتحدثون عن الإخوان والمتعاطفين معهم، بعد أن وضعوهم في مكانة تسبق العدو الصهيوني الذي قرر مؤتمر الخرطوم1967 عدم الصلح معه أو الاعتراف به أو التفاوض معه! نعال البيادة يعلمون قبل غيرهم أن الأمر مرهون بإرادة صليبية صهيونية أعرابية انتهازية أكبر منهم وممن يستخدمونهم. تبارى آخرون في هجاء الإخوان أو الإسلام وطالبوا بحل الأحزاب والتنظيمات الإسلامية- عدا حزب اللحى التايواني- تقربا إلى الحكم العسكري الدموي الفاشي.. أليس الأولى بالحل: التنظيم الطليعي وأحزاب البصاصين والأحزاب الشيوعية التي تحارب الإسلام وتشوهه وتشهر به؟ نسأل الله أن يشفي صندوق الذخيرة وينفخ الروح في صندوق الاقتراع ليتعايش الناس في ظل السلام والعدل والمرحمة والبحث عن المستقبل!

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

إلى رحمة الله:      

 كان شهما ونبيلا ومثاليا، ولا أزكي على الله أحدا، وعلى مدى عقود رأيته نموذجا فريدا في سلوكه وعمله وبين طلابه وزملائه. رحم الله صديقي الراحل أ. د. محمد أبو المكارم قنديل، أستاذ اللغويات بجامعة الأزهر، وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

وسوم: العدد 768