الغوطة الشرقية بين خيارين ،الموت أو التهجير

د. محمد أحمد الزعبي

1.

تنطبق على الخيارين المذكورين في عنوان هذه المقالة ، مقولة ( أمران أحلاهما مرّ) ، فالموت يمكن أن يكون خياراً ، سواء اكان هذا الخيار واعيا او غير واع ، وذلك في مثل أهزوجة ( الموت ولا المذلة ) وفي مثل قول المتنبي ( وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا ) على سبيل المثال ،ولكنه يبقى على أية حال خياراً مرّاً . أما الهجرة فلا يمكن أن تكون إلاّ على قاعدة ( مكره أخاك لابطل) / أو على قاعدة ( إذا لم يكن غير الأسنة مركب فليس على المضطر إلاّ ركوبها ) ولا سيما إذا كانت الهجرة من النوع الذي يخشى المهجّر فيه أن تكون عودته إلى بيته الذي هجر منه ، وقريته التي أرغم على تركها ، محفوفة بالمخاوف والشكوك ، بل وبالأهداف المرئية والمخفية لهذه العملية المشبوهة التي اقتضت من بشار وأعوانه ، اقتلاعه وأسرته من دارهم ومن قريتهم ، دون وجه حق ، وترحيلهم الى مناطق جديدة لايعرفونها ، ولا يعرفون ماذا ينتظرهم فيها ، حتى ولو لم يكونوا فيها غرباء الوجه واليد واللسان .

إن مسؤولية هذا التهجير القسري ، إنما تقع – وفق رؤية الكاتب – على جهات أربع هي :1) بشارحافظ الأسد وشركاءه الطائفيين ،2) فلادمير بوتن ، وذلك بممارستهما في الغوطة الشرقية ، وبعد حصارها لأكثر من أربع سنوات ، سياسة الأرض المحروقة ، أو نموذج غروزني ، والتي كان ختامها ( المسك!!) يتمثل باستخدام بشار الأسد وحلفاؤه السلاح الكيماوي في قتل من لم تقله براميلهم وصواريخهم ونابالهم وقنابلهم العنقودية ،( رغم أن النابالم والقنابل العنقودية محرمة دولياً كما هو معروف ) 3) الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في ممارستهم الصمت والتدليس ، 4) الفصائل السورية المسلحة ، بسبب تناقضاتها وتسمياتها وراياتها واختلافاتها وانجرار بعضها وراء المكاسب المادية ، على حساب قيم الثورة وأهدافها في الديمقراطية والعدالة (الإجتماعية والسياسية والاقتصادية الثقافية ) وبالتالي في الحرية والكرامة .

2.

قبل يومين اثنين صوت مجلس الأمن الدولي بالإجماع (!!!!!) آكرر بالإجماع ، على المشروع السويدي الكويتي الذي تجسد ( بعد اللتيا واللتي ) بالقرار 2401 الذي ينص على وقف القصف في الغوطة الشرقية(باستثناء كذا وكذا وكذا !!) لمدة ثلاثين يوما،اعتبارا من (أقرب مدة ممكنة !! ) . واقع الحال فإن التأجيلات المتوالية لطرح المشروع على التصويت ، كانت تأجيلات مدروسة وهادفة ، وإن ماسمعناه من وزير دفاع بوتن هذا اليوم ( الإثنين 26.2.18) ، إن هو - من وجهة نظري - إلا التطبيق العملي المتفق عليه بين خماسي الفيتو لهذا القرار ، الذي تم اتخاذه بالإجماع ، إرضاء للمطالبات الملحة من كل شرفاء العالم ، وبمن فيهم الشرفاء من مواطني دول الفيتو نفسها بالاستجابة لصيحات ولنزيف دماء نصف مليون مدني نصفهم من الأطفال في الغوطة الشرقية المحاصرة من نظام بشارالأسد منذ خمس سنوات،والتي تتم محاولة إبادة أهلها وتهجيرهم اليوم على يد أسلحة بوتن المتطورة التي ورثها - مع الأسف الشديد - عن الاتحاد السوفييتي. لقد استمعت الى الخطابات العنترية في مجلس الآمن، وكدت أن أخدع(بضم الهمزة ) بما سمعت ، ولكني بعد أن استمعت اليوم الى هدنة الساعات الخمس التي منحها عنتر بن شداد موسكو ، لأطفال ومدنيي الغوطة الشرقية ، أيقنت أن المثل الشعبي الذي يقول ( يافرعون مين فرعنك ؟ مالقيت حدا يردني !! ) هو التطبيق المتفق عليه بين خماسي الفيتو النووي للقرار 2401 ( والله أعلم ) .

عندما استمع آحد الآصدقاء الى وجهة نظري كما أوردتها آعلاه ، استنكرها وأبدى رآياً آخر حول الموضوع ، وهو موافقته على وصف بوتن بالمجرم ، أما الأربعة الآخرون فهم برأيه

ليسوا كذابين ، وإنما هم يحاولون تجنيب العالم حربا عالمية ثالثة يسعى إليها كل من بشار وبوتن بعيدا عن أية مسؤولية أخلاقية أو إنسانية ، ولذلك فهم يقدمون له هذه التنازلات ، التي تسمح له بتحدي العالم وقتل المدنيين والآطفال والنساء .

من جهتي أحترم رأي صديقي ( كرأي آخر ) ولكني لست مضطرا لقبوله ، وسأظل من جهتي مصراً على أننا أمام مجرم وأربعة كذابين ، طالما ظللت أسمع وأرى ليل نهار بكاء الجياع وعويل الثكالى والقبور الجماعية والبيوت التي تدمرها طائرات بوتن وبشار على رؤوس ساكنيها ، وذلك تحت سمع وبصر وتفرج وصمت هؤلاء الأربعة الآخرين المعنيين .

( مقتطع معدل من مقال منشور بتاريخ 27.02.18 بعنوان "الغوطة الشرقية بين مجرم وأربعة كذابين ")

3.

منذ السابع من نيسان / أبريل 2018، يوم مقتلة أطفال دوما بغازات بشار الأسد السامة ، أقول منذئذٍ ونحن نسمع صباح مساء ، ومن مختلف وسائل الإعلام ، أن هذه المجزرة الكيماوية ، المحرمة دولياً ، لن تمر دون عقاب . بل بات على بشار الأسد ، حسب تقدير البعض ، أن يجهز نفسه للرحيل الذي لارجعة بعده . وبدأت من هنا سلسلة اجتماعات ومهاترات مجلس الأمن الدولي ، وبدأت معها سلسلة الفيتوالروسي اللانهائية ، بينما كان سكّان المعمورة يحبسون انفاسهم ، وهم يعدون الأيام والليالي، بانتظار( الرد المناسب) الذي وعد به ( الرجل المناسب ) ممن نصبوا أنفسهم مدافعين عن الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم ( المتحضر) . وبعد أسبوع من هذه المشاورات والمهاترات ، والذي ( الأسبوع ) كان ضرورياً لكل من بشار وبوتين ، لكي ينظفوا مدينة دوما من الإرهابيين (!!) أي عملياً من سكانها الأصليين ،من جهة ، ومن جهة أخرى ، لإخفاء آثار الجريمة (آثار السلاح الكيماوي ) ولا سيما إخفاء الأثر الأهم والأبرز لهذه الجريمة ،ألا وهو بشار الأسد نفسه ،الذي تم نقله من قبل قوات بوتن(على ذمة وسائل الإعلام ) الى القاعدة البحرية الروسية في طرطوس،كي لايصيبه مكروه على يد الصواريخ الأمريكية ، أو الطائرات الفرنسية والبريطانية ،التي باتت روائحها تزكم الأنوف ، وأصواتها تصم الآذان ، باعتباره ( بشار ) الدجاجة التي تبيض لهم (الروس) ذهباً كل صباح .

لقد أخذت الصواريخ الذكية والطائرات الذكية أخيراً طريقها إلى المواقع المحددة لها ، وذلك بعيد منتصف ليلة الجمعة الموافق13 نيسان / أبريل 2018، وقبيل فجر يوم السبت 14/04/2018 أعلن ترامب عن انتهاء المهمة ،( أي بعد حوالي أقل من ساعتين ) وبات على جميع الأطراف ( بوتن وترامب وبشار وطهران ) ، أن يعلنوا انتصارهم في هذه الحرب كل على من يشاء ، وكيف يشاء ، هذا وقد كانت طريقة نظام ولي الفقيه ( مثلاً) في احتفاله بالنصرعلى أطفال ونساء وشيوخ دوما ، هي أن يرسل أحد أتباع ولي الفقيه ( علي أكبرولايتي ) إلى دوما للتأكد من أنه قد تم تهجيرأهلهاوتدميربيوتها، وقتل أطفالها ونساؤها وشيوخها ورجالها ، تماماً كما أراد لها ولي الفقيه أن تكون . فلتقر عيناك ياآية خامنئي ، فإن دوما باتت أثراً بعد عين ، وبات بإمكانك أن تعيد بناءها وتحويلها إلى ملكية إيرانية فارسية ، لكي تقوم بوظيفتها التاريخية في تشكيل الحزام الأمني ، الذي يقوم بحماية الفئةالضالة أوبالتعبيرالطائفي المقيت( الإرهابيين ) في سوريا برئيسها وبجيشها العقائدي ( قاتل الشعب السوري ) وبشبيحتها وبكل من يجيد اللطم فيها ، وذلك ريثما تعثر " دول الفيتو الخمس " ( المجرم والكذابون الأربعة ) على البديل المناسب ، والمقبول من دول الفيتو الخمس ، لسيادة الرئيس الوريث بشار حافظ الأسد

(مقتطع ثان معدل من مقال منشور بتاريخ 14.04.18 بعنوان"الضربة الثلاثية ، أما بعد") :

4.

لقد مر حتى تاريخ هذه المقالة ( 19.04.2018 ) إثني عشر يوماً بالتمام والكمال ، على مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية عامة وفي دوما خاصة ، وما تزال الأمم المتحدة ودول الفيتو في مجلس الأمن يناورون في تنفيذ المطلب الروسي المشبوه بإجراء تحقيق أممي في هذه الضربة الكيماوية التي راح ضحيتها حوالي المائة شهيد معظمهم من الأطفال ،ومئات المصابين ، والتي يصر الجانب الروسي على عدم وجودها من حيث الأصل (واعجبي) . إن إصرار الجانب الروسي على إنكار حدوث الضربة ، وتواطؤ دول الفيتو الأربع الأخرى (الديموقراطية !!) معه ( واعجبي أيضاً ) ، بدلالة الإشكالية المضحكة المبكية المتعلقة بمسألة عدم استطاعة مفتشي منظمة حضرالأسلحة الكيماوية ومفتشي لجنة الأمم المتحدة الدخول إلى دوما ،حتى هذا التاريخ ( 19.04.2018 ) التي باتت ومنذ السابع من نيسان / أبريل تحت حكم وتصرف كل من بوتن وبشارالأسد وولي الفقيه بحدود 100% ، يجعلنا نصر بدورنا ـ كمراقب متواضع ـ على وجود تواطئ دولي ضد ثورات الربيع العربي عامة ، والثورة السورية من بينها خاصة . وهو مانشاهده ونلمسه اليوم في اليمن وليبيا ومصر وسوريا . وليس من لم يسمع ولم ير ، كمن سمع ورأى ، والله أعلم .

وسوم: العدد 769