الربيع العربي تحت المجهر 1
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
الحلقة الأولى
القواسم المشتركة بين بُلدان الرّبيع العربي
▪لكي نعرف كيف حصل ما حصل في بلدان الربيع العربي، ولكي نستنبط مما حدث الدروس والعبر النافعة، ولكي يتم البناء على ما توافر من إيجابيات ونقاط قوة، واستبعاد ما ظهر من نقاط قوة وسلبيات، لابد أن نعرف القواسم المشتركة بين هذه البلدان، مما يمكن اعتبارها أسباباً لانتفاضة الشعوب وثورة الجماهير، ويمكن تلخيص أهم هذه القواسم في النقاط الآتية:
1- المُعاناة المُزْمنة من الاستبداد:
صحيح أن البلدان العربية قاطبةً تعاني من آفة الاستبداد السياسي بوصفها بلداناً متخلفة ضمن دول العالم الثالث، لكن الدول التي رفعت راية الربيع العربي، ولاسيما سوريا وليبيا واليمن، عانت أشدّ من غيرها من ويلات الطغاة، حيث قبَعت تحت استبداد طويل الأمد، وتحَوَّل هذا الاستبداد مع طول المدى إلى مرض مُزْمن؛ حتى أنه أصاب المجتمعات بفقدان المناعة كالإيدز تماماً، وليس صدفة أن يكون حكام هذه البلدان هم الأطول عمرا في كراسي السلطة، فقد صعد القذافي إلى السلطة سنة 1969عبر انقلاب عسكري وكذلك فعل حافظ الأسد بعد نحو عام واحد ولم يكن بشّار سوى نسخة مكررة من أبيه وقد افتخر تماماً عشية استوائه على الكرسي بأنه لن يَحيل ولن يَميل عن درب أبيه، وكان أميناً بالفعل على الإرث الإجرامي لوالده الذي (استأسد) على شعبه و(تنعّجَ) على أعداء وطنه وعلى رأسهم الصهاينة الذين انتزعوا هضبة الجولان من بين مخالبه، وصعد علي عبدالله صالح إلى السلطة في اليمن بعد انقلاب مُموّه سنة 1978، وظل هؤلاء يحكمون بلدانهم بقوة الحديد والنار، ورغم قيام صورة من صور الديمقراطية الشكلية في اليمن إلا أن المضمون كان قريبا مما حدث في سوريا وليبيا، وفي أحسن سنوات الديمقراطية كان لسان حال علي صالح يقول للمعارضة الشعبية: أنتم أحرار في أن تقولوا ما تشاؤون وأنا حر في أن أفعل ما أريد!
الجدير بالذكر أنه لا يوجد من ينافس هؤلاء في طول المدة الزمنية التي حكموا بها شعوبهم سوى السلطان قابوس، وكان الشعب العُماني قد بدأ بالتجاوب مع الربيع العربي في بداياته، لكن السلطان قابوس انتزع بحكمته فتيل الفتنة وحقق جزءا كبيرا من مطالب الشعب العماني وتوصل الطرفان إلى كلمة سواء، وكنت وقتها قد نشرت مقالاً أقارن فيه بين منهج قابوس ومنهج صالح في مواجهة مطالب الشعب، وذلك تحت عنوان (بين السلطان قابوس والرئيس كابوس)، وكانت النتيجة أن أطفأ قابوس نار الفتنة بماء حكمته بينما صبّ صالح زيت حمقه على ثورة الشعب فاشتعلت حتى التهمت كرسيه، وردّ هو وفق منهج: (عليّ وعلى أعدائي يا رب) أو (أنا وبعدي الطوفان) كما هي عادة الفراعنة في كل زمان!!
وتتشابه الأنظمة التي ثار عليها الربيع العربي في ذهابها إلى توريث السلطة لأبنائها رغم كونها جمهوريات بل وتتشدق بالديمقراطي ليلاً ونهارا، فقد ورث بشار السلطة عن أبيه بعد أن تم تعديل الدستور بين عشية وضحاها، وفي ليبيا كان سيف الإسلام القذافي يتأهل لاستلام السلطة من أبيه، بينما كان أحمد علي عبدالله صالح يتأهب لاستلامها عبر انتخابات شكلية لا تتوفر فيها أدنى شروط الانتخابات وبعد أن أصبح عضوا في البرلمان وقائد الحرس الجمهوري وقائد القوات الخاصة، وبعد أن صار حاكما فعليا بسبب السلطات التي يتمتع بها خارج نطاق كل ما أعطي من مناصب، وبعد أن خاض عالم التجارة والاستثمار وربط كثيرا من العلائق مع رجال المال والأعمال بجانب الكثير من المشائخ والوجاهات بجانب العدد الأكبر من قادة الجيش بعد أن أصبح قائدا للجيش الموازي وهو الحرس الجمهوري الذي ظل يتم بناءه على حساب الجيش اليمني!
2 - استشراءُ الفساد:
نتيجة انعدام آفاق التغيير وطول المدى بمن يَحكمون هذه البلدان ويُحكمون السيطرة على مفاصلها، فقد استشرى الفساد في كل أوصالها، حيث صار النظام السوري من أفسد أنظمة العالم وفق تقارير دولية كثيرة، حتى تفشّت الرشوة والمحسوبية في كل مفصل وغزت كل مؤسسة، واضطرت السلطة للتنفيس من احتقان الشعب أمام الفساد المستشري كالسرطان، وذلك عبر السماح للدراما السورية بنقد الفساد دون الإشارة إلى ماهية الفاسدين، وكأنهم مخلوقات فضائية هبطت من بعض الكواكب! ولم يتخلف النظام في اليمن عن ركب الفساد، حيث امتطى صهوته بكل اقتدار، بل واستخدم الحكمة اليمانية في ابتكار صور خفية من الفساد، وقد قاد بلاده نحو مركز متقدم بين أكثر الدول فسادا في العالم، وقد تحدثت تقارير الأمم المتحدة عن أن ثروة صالح وحده وصلت إلى 60 مليار دولار، وستعرف عزيزي القارئ كم أن هذا المبلغ مهولٌ عندما تعلم أن صادرات البلاد لا تتعدى 6 مليار دولار في العام، أي أن ثروة صالح تساوي صادرات اليمن لمدة عشر سنوات، فكيف بمجمع أبناؤه وأقاربه وأنصاره وأصهاره وأشياعه من ثروات، حيث احتدم بينهم تنافس حاد على اكتناز أموال الشعب، حتى أن عبد القادر باجمال الذي كان رئيسا للوزراء وأميناً عاماً لحزب صالح (المؤتمر الشعبي العام) قال ذات صراحة مع أحد الصحفيين: (من لم يَغتنِ في أيام صالح من المسؤولين فهو مُغفَّل)!
أما في ليبيا فقد نَحَى الفساد منحىً آخر بجانب صور الفساد المعروفة، حيث عبث العقيد القذافي بأموال الشعب الليبي بصورة منقطعة النظير، ووزّعها على حركات ثورية وعصابات انقلابية في كثير من دول العالم في سبيل تحقيق أوهامه في إقامة إمبراطورية تدين له بالولاء، حتى أن الشعب الليبي صار يعاني أشدّ المعاناة من الفاقة والبطالة رغم أن بلاده من أغنى بلدان العالم بالذهب الأبيض ورغم قلة السكان، وتذهب تقارير إلى أن ثروته تناهز التسعين مليار دولار، وبالطبع فإن ذلك قد حدث مع أنه لا يحكم بعد أن سلم الحكم للشعب وأقام ما سماها بالجماهيرية، معلناً أن التمثيل الذي تقوم عليه الجمهوريات الديمقراطية تدجينٌ وتدجيل!
والخلاصة أن هذه البلدان عانت من تفشي الفساد بكل صوره المعروفة والمبتكرة، حيث شاعت المحسوبية وتفشّت الرشوة، وانتشر الظلم والمحاباة ووُسِّدت الأمور إلى غير أصحابها، واستأثر المقرَّبون بالمناصب والمنافع، وحصل الموالون لتلك الأنظمة على مزايا بلا حساب وعلى حقوق بدون واجبات، بينما تحملت الجماهير أوزار الجميع، حتى صارت مواطنتها ذات واجبات صرفة ومن دون حقوق سوى فتات لا يُسمن ولا يُغني من مَهانة!
ولقد استخدمت الأنظمةُ الأجهزةَ والمؤسسات المنوط بها محاربة الفساد من أجل تكريس الفساد وتقنينه، وعلى سبيل المثال فإن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وهو الجهة المنوط بها محاربة الفساد في اليمن، ظل يسجل كل عام في تقاريره آلاف الحالات لسرقة المال العام بمختلف الطرق وبما يساوي عشرات المليارات من الريالات كما رأيتها بأمّ عيني، لكن لم تُحوّل أي قضية من هذه القضايا إلى القضاء ولم يحاسب فاسد واحد من هوامير الفساد، بل ظل الفاسدون يرتقون الوظائف المهمة وبسرعة تثير الدهشة والاستغراب، وارتفعت مطالبات عديدة في البرلمان اليمني بأن يتم إلحاق هذا الجهاز بالبرلمان حتى يتم تفعيل محاربة الفساد الذي التهم الأخضر واليابس من مقدرات الشعب وأهلَكَ الحرث والنسل، لكن علي عبدالله صالح رفض ذلك وأصر على أن يبقى تابعاً لرئاسة الجمهورية، حيث كان يتخذ من تلك التقارير أداة لتطويع أولئك الفاسدين لصالحه ولضمان ولائهم لسلطته وحزبه، حيث ظل يعتبر أن الفاسدين مصدر أمان لنظامه الحاكم، مما حدا به إلى تقريب من كان بعيدا ورفع من كان متدنياً، وفي المقابل فقد أقصى الشرفاء واستقصد النزيهين، معتقداً أنهم يحملون أجندات معادية لحُكمه ويشكلون خطرا على سلطته مهما كانت انتماءاتهم السياسية، ومع كَرِّ الليالي ومَرّ الأيام أصبح ما يسمى بحزب المؤتمر الشعبي مثوى للعابثين ومظلة للفاسدين، وسرى الفساد في كافة المؤسسات الحكومية سريان النار في الهشيم، حتى أصبح ثقافة منتشرة وسط عامة الناس، لدرجة أن بعضهم صاروا ينظرون للفاسد بأنه (أحمر عين)، وهو مصطلح يمني يدل على شدة الذكاء، وفي المقابل فإن من لم يَغتنِ من وظيفته ويستثمر مركزه فإنهم ينظرون إليه كمغفل وأحمق!
3 - تَحوُّل الأنظمة الحاكمة إلى غاية:
في المجتمعات المتسلحة بالحرية والمُتحلِّية بالوعي تكون الأنظمة الحاكمة وسيلة لحفظ الأوطان وخدمة الشعوب، لكن الآية انقلبت في دول الربيع العربي فقد تحولت أنظمتها إلى غايات بحد ذاتها، ولذلك تم إهدار الحريات لصالح أصنام الأنظمة، واستُلبت الحقوق لصالح الأجهزة الأمنية وللجيوش التي حُرفت عقيدتها العسكرية لتصبح حامية للكراسي والحكام، حتى أن 60% من ميزانية سوريا مثلاً أعطيت للأمن وللجيش الذي لم يُحرِّر منذ عقود أرضاً ولم يَحمِ عرضاً وإنما صار أشبه ب(كلب حراسة) عند (الأسد) الذي وقف ضد شعبه، وهذا ما حدث في بقية البلدان مع وجود فروق نسبية بسيطة!
لقد فشل الجيش السوري في حماية الأراضي السورية من إسرائيل وظل يردد بأنه سيرد على ضربات إسرائيل لأراضي سوريا في الزمان والمكان المناسبين، ونجحت تشاد في هزيمة جيش القذافي، وانتزعت إريتيريا جزرا يمنية عديدة من جيش صالح الذي سخر له نصيب الأسد من إمكانات الدولة وثروات الشعب، ومع ذلك فقد أصبحت الأوطان والشعوب خادمة في بلاط الجيوش ومؤسسات الأمن، وبذلك تم تبادل المقاعد بين الطرفين، حيث أصبحت الوسائل غايات وصارت الغايات وسائل.
4 - كثرةُ الشعارات وقلّةُ الإنجازات:
بسبب تفشي الاستبداد وشيوع الفساد، وبسبب تسلط الجيوش والأجهزة الأمنية على الشعوب قلّت الأعمال وندرت الإنجازات الحقيقية، وتم الاستعاضة بالشعارات البرّاقة والضجيج الفارغ عن أي إنجاز حقيقي، حيث شبعت الآذان من سماع الوعود الكاذبة والإنجازات الوهمية، بينما ظلت العيون جائعة لرؤية الإنجازات التي تدرأ ربقة العبودية عن رقاب الناس، وترفع أوزار الفقر عنهم، والتي توفر لهم الحد الأدنى من الحرية والحياة الكريمة. وهذا ديدن الأنظمة الفارغة من المشروعية والخالية من النزاهة، حيث تخترق شعاراتها الآذان، ولا شكّ أن العربة الفارغة أكثر جلَبَة من العربة الممتلئة كما يقول الأديب والفيلسوف الإيرلندي برنارد شو!
ولم يقتصر هذا الأمر على الشؤون الداخلية فقط بل انطبق على الشؤون الخارجية لهذه البلدان، ومن يتأمل سياسات سوريا وليبيا واليمن فسيجد أنها تُعلي من شعارات العداء للغرب والاستعمار، وتُكثر من الحديث عن الاستقلال الوطني والكرامة العربية وعن الوحدة القومية بل والرابطة الإسلامية في بعض الأحيان، بينما نجدها ترتمي في أحضان الغرب في الواقع العملي، وتحقق له مآربه كما لم يحلم، وتُقدِّم له ما يريد على أطباق من ذهب، ولا شك أن شعارات الأسد الأب حول الصمود والتصدي ثم شعارات الابن حول المقاومة والممانعة مشهورة، حتى أنها لقيت صدىً طيبا عند أعداد مقدرة من العرب الذين صاروا في هذا الزمن (ظاهرة لسانية) خالية من العقل، و(موجة انفعالية) خالية من أي فعالية، حيث تدور مع الشعارات الجوفاء وتلتف حول الزعامات الكاذبة، وتنفعل بالخطابات حتى لو لم يكن لها أي ظل من الحقيقة، بينما كانت تُساهم في الواقع بقوة في محاولات لتدجين المقاومة الفلسطينية وتصفية القضية، وتقوم بحراسة الحدود مع إسرائيل كما لم تفعل الدول ذات العلاقة القوية مع الغرب وهي مصر ولبنان والأردن!
ومن المعلوم كيف ظلت شعارات القذافي المعادية للغرب والمتحدثة عن نظريته الثالثة وكتابه الأخضر وعن الأممية الإسلامية هي شغله الشاغل طيلة أربعة عقود من الزمن، وكان حديثه المستمر عن ليبيا العظمى يملأ الآفاق بينما المواطن الليبي يعيش كعبد في سجن كبير أو يتجرع الويلات في المنافي، وفي المقابل فقد سخّر ثروات ليبيا لصالح مغامرات حمقاء لم تَزد طينة الأمة إلا بلةً ولم تزد الواقع الأليم إلا وبالاً، ورغم خلو الشعارات من أي مضمون فقد حصد الهشيم من جرائها وجرّع شعبه العلقم بسببها، حيث قام بتسليم جزء من ثروات ليبيا كتعويضات للغربيين الذين اتهموه بالإرهاب ومارسوا على بلاده حصارا طويل الأمد، وختم حياته بتلك الحرب التي شنها ضد شعبه الذي رفع بكل سلمية شعارات تطالب بإصلاح الأوضاع، مما جعل ليبيا مستباحة بكل ما فيها ومن فيها من قبل الغرب وأذياله الإقليميين! ولم يكن علي صالح في اليمن بعيدا عن هذا المنهج وتلك المفارقات التي تملأ القلوب حسرة وكمداً، وإنما كان أكثر مكراً وأشد ذكاء في ذرّ الرماد على العيون وإهالة الرمال على الحقائق، وأكثر مهارةً في الضحك على ذقون الساذجين والمغفلين، بينما كان في الواقع قد أعطى للأمريكيين شيكاً على بياض، حيث سمح للطائرات الأمريكية باستباحة الأجواء وانتهاك الحدود، ومكّنها من اغتيال المئات من اليمنيين تحت مبرر محاربة الإرهاب، بجانب تمكين السفير الأمريكي من القيام بدور المندوب السامي أيام زمان، حيث تدخلت أمريكا في كل أمر وحشرت أنفها في كل صغيرة وكبيرة في البلد، حتى صارت العمالة ذكاء وصار تقديم التنازلات في بعض الثوابت دهاء.
وهكذا فإن كل هذه العوامل المشتركة وغيرها قد ساهمت في اندلاع الثورات في هذه البلدان، ولكن ما هي استراتيجية الغرب وأذياله في مواجهة هذه الثورات؟ هذا ما سنحاول أن نسلط الضوء عليه في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
وسوم: العدد 771