شعار سنة من الحصار: بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
لله درُّ الأديب الرافعي إذ يقول: «إنما النّكْبة مذهبٌ من مذاهب القدر في التعليم، وقد يكون ابتداء المصيبة في رجل هو ابتداء الحكمة فيه لنفسه أو لغيره»، وفي وحي قلمِهِ ينقل عن سادة الكَلِم تشبيهًا بليغًا يُبرز الدُّرر الكامنة في الأزمات: «ما أشبه النكبة بالبيضة تُحسب سجنًا لما فيها وهي تَحوطه وتُربِّيه وتُعينه على تمامِه، وليس عليه إلا الصبر إلى مُدّة، والرضا إلى غاية، ثم تنقَفُ البيضة فيخرج خلقا آخر».
وبعد عام مضى على حصار قطر، يمكننا القول ان الشعب القطري، قد خرج من بيضة النكبة وقد اشتدّ عودُه، وخَبُرَ معنى التحدي والصمود، واستعذب طعم النضال من أجل الحفاظ على عزّته وسيادته وكرامته.
عام مضى على أحداث الفتنة التي ضربت البيت الخليجي، وأظهرت أمورًا دُبِّرت بليلٍ، وكشفت أن العرب ظلوا يرددون دهورًا المثل السائر «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض» ولمّا يستفيدوا منه، فبِيعَ الأقارب للأباعد والأصدقاء للأعداء بثمن بخس، واشترى القوم رضا الكيان الأسود بذبح الشقيق الأقرب، ولعمري هو أَمَرُّ الظلم وأقساه !
سطّرها يوما طرفة بن العبد:
دوظلم ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً، علَى المرءِ من وقع الحسامِ المُهنَّدِ»
في الوقت الذي كان الجمع يراهن على حدوث فوضى في الداخل القطري، نتيجة الحصار وما سبقها من ثورة مسعورة في عالم الفوتوشوب والكذب والتلفيقات، وبأنهم ينتظرون أن يمر الشهران والثلاث والأربعة لكي تعلن قطر استسلامها للشروط المُجْحفة، خرج أمير قطر في خطاب عنون له بـ «خطاب العقل والوجدان»، وأشاد بجَلَد القطريين وصمودهم الذي وصفه بأنه عفوي وطبيعي. كان فخورا بنضج شعبه، مرفوع الرأس بالتفافهم وإخلاصهم ووَحدتهم، الشعب الذي أدرك من الوهلة الأولى أنه مُستهدف، وأن شروط الحصار مصبوغةٌ بالتركيع والإذلال وسلب الإرادة والسيادة ومُقدّرات الدولة، فآمن بعدالة قضيّته وسلامة موقفه، ومن ثم وقف خلْف قيادته، قد شجّعته تجربةٌ غضّة حديثة للشعب التركي الصادق الحليف، في تصديه للمحاولة الانقلابية، شرفاء بعضهم من بعض.
افتخر الأمير بشعبه الذي لم يتخلّ رغم الحصار الجائر عن إطاره الأخلاقي والقِيَمِيّ، وحُقّ له أن يشيد بذلك، ولقد سجّل الإخوة المصريون العاملون في قطر شهادتهم عن حسن المعاملة وفي ذلك الكفاية، وذلك على الرغم من ضُلوع نظام دولتهم في هذه القطيعة، وانطلاق إعلامه للنيْل من قطر بكرةً وعشيًّا.
ربما كانت حياة الدّعة والراحة التي يحياها القطريون قد احتاجت إلى هزة عنيفة تصقلهم وتشدّ ظهرهم وتؤهلهم لمرحلة أخرى يضعون فيها أقدامهم بين الكبار، فجاءت هذه المحنة التي تحولت إلى منحة، وكأنهم قد أصغوا لصرخة بديع الزمان النورسي في «المثنوي العربي» حين قال: «كنزي عجزي»، فلو رأيتَ إمام مسجدٍ قطري في رمضان الفائت قد تحشْرج صوته في الدعاء وهو يستودع اللهَ قطر وأهلها وسماءها وأرضها ومياهها وخيراتها، لعلمت أن هذا العجز كنزٌ وهذه النكبة بيضة وهذا الحصار صقلُ ومدد، فالتجأت قلوبهم إلى خالقهم ابتغاء مَعيَّتِه وتأييده.
بشَّرَهم أميرهم بالنصر، وأن الأزمة قد دفعته لاستكشاف قِيَمه الإنسانية ومواطن قوته وإرادته وعزيمته، والتزامه بالإطار الأخلاقي السامي وعدم المعاملة بالمثل مع رعايا دول الحصار داخل قطر، بما يُمهّد لمرحلة جديدة من الرُّقيّ المجتمعي ترتكز عليه الدولة في نهضتها.
الأزمة قد أصقلت الحكومة القطرية بوزاراتها ومؤسساتها المختلفة، فواجهت الحصارَ بحكمة واقتدار، ووفّرت كل احتياجات الشعب، واستفادت من الأزمة في تشخيص النواقص والعثرات أمام تحديد شخصية قطر الوطنية المستقلة.
لم يكن القول بفشل الحصار نابعًا من رؤية خاصة بمؤيدي قطر، وإنما شهدت بذلك تقارير كُبريات الصحف والمجلات العالمية، فمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية أكدت على أن قطر كسبت المعركة بالجهود الدبلوماسية لتجاوز الحصار الاقتصادي والسياسي.
وتابعتها مجلة «فوربس» في التأكيد على أن قطر صمدت بوجه عاصفة الحصار، وخاب مسعى الدول الأربع التي قررت مُحاصرتها لدفعها إلى الاستسلام.
و»غارديان» البريطانية ترى أن الحصار منح قطر مزيدًا من الثقة لمواصلة بناء نموذجها الثقافي والسياسي بتحدٍ وإصرار وجرأة.
بل إن شخصيات إعلامية بارزة في دول الحصار أقرت بهذا الفشل خلال جلسة نقاشية نظّمها مركز الإمارات للسياسات في أبو ظبي 14 أيار/مايو الماضي، حيث صرحوا أن الحصار الاقتصادي المفروض على الدوحة فشل في تحقيق الغاية منه بسبب قوة قطر الاقتصادية والمالية.
حصدت قطر ثمار سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها، واستفادت من علاقاتها المُتّزنة المرنة مع الجميع، فمِن ثَمَّ أوْجدتْ البدائل للسلع الغذائية والمواد الأولية عن طريق فتح خطوط النقل الجوي مع تركيا، والشروع في التخطيط لمشروعات كبرى تُحقّق الاكتفاء الذاتي، لكسر الاعتماد على دول الحصار، وكانت المفاجأة في ذكرى الحصار الأولى اتّخاذ قرار وزاري برفع السلع المستوردة من دول الحصار من داخل منافذ البيع القطرية، في رسالة واضحة إلى تلك الدول بأن قطر فوق الحصار.
لقد كان القرار من قَبِيل المعاملة بالمثل، فمع بداية الحصار أرادت تلك الدول الإضرار بالشعب القطري فمنعت منتجاتها من الوصول إلى الأسواق القطرية، ولكن بعد أن أصبح القطريون يعتمدون على المُنتج المحلي ومُنتجات الدول الصديقة، حاولت دول الحصار ضرْب تلك المنتجات بإغراق الأسواق القطرية بمنتجاتها بأسعار دون التكلفة وباستخدام أسواق بديلة للوصول إلى الدوحة، فباءت المحاولة بالفشل.
وبالتوازي مع لهجة الإباء والعزة والتمسّك بمبدأ السيادة، أظهرت السياسة القطرية مرونةً تجاه دول الحصار، وأكدت كثيرا على استعدادها لحل الأزمة والتلاقي مع الأشقّاء في البيت الخليجي، لكنه وِفق مبدأ عدم التفريط في تلك السيادة، وقَبِلت المشاركة في تدريبات درْع الخليج التي عُقدت في السعودية أيار/مايو المُنصرم.
نستطيع القول انه بعد عام من الحصار، استطاعت الدبلوماسية القطرية الهادئة والمتوازنة قلْب الأمور لصالحها، وحصلت على المصداقية والتعاطف من قِبل المجتمع الدولي، حيث كانت ولا تزال شريكا دوليا في محاربة الإرهاب، بما يدْحض تهمة دعمها للتطرف والإرهاب، بل إنها شاركت مع دول الخليج والولايات المتحدة في فرض عقوبات جديدة على حزب الله اللبناني ذراع إيران في المنطقة، ولعل في ذلك أبلغ الرد على اتهام قطر بالتحالف مع إيران على حساب الأمن الخليجي.
وبعد مُضيِّ عام على الحصار، ما الذي جنتْه دول المقاطعة سوى السقوط الأخلاقي وخيبة الأمل؟ ما الذي تغير؟ قطر لا تزال هي قطر، بعلاقتها المنفتحة، واقتصادها القوي، وشعبها الأبي الرافض للاستسلام، وقيادته المتماسكة، فما الذي حصدته دول الحصار؟
ربما آن الأوان لعودة اللُّحْمة في البيت الخليجي وتجاوُز الخلافات على مبدأ الحفاظ على سيادة الدول وإرادتها السياسية.
البيت الخليجي بحاجة إلى إعادة الاصطفاف والتمازُج في وقت سادت فيه لغة التكتلات، وفي ظل المشروعات الاستعمارية المُتعددة بثوبها العصري، وليست قطر هي العدو، ولن تكون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 775