ما يُرادُ لإدلب، أو الجنوب
بينَ الحينِ و الآخر، يتجدَّد الحديث عن رغبة النظام، في القيام بعمل عسكريّ نحو إدلب، أو الجنوب؛ و هو الأمر الذي يردّه كثيرٌ من المراقبين، و يذهبون به إلى عمل الجيش الإلكتروني، الذي لا يتعدّى برامج أجهزة المحاكاة الذكية، التي يخوضون من خلالها حروبًا دانكشوتية.
فالنظامُ بحسب رؤية هؤلاء المراقبين، غير جادّ في التوجه إلى هاتين المنطقتين، لأسباب عدة، فهو من حيث التفاهمات الدولية لا يستطيع أن يخرج عن المرسوم لإنهاء الصراع في سورية، و من الناحية العسكرية لا يمكن له أو لإيران أن يشرعا بعمل ضد الفصائل من غير تغطية جوية روسية، و معلوم أنّ روسيا لم تعد بصدد القيام بذلك، و أبلغته قاعدة حميميم دون مواربة إلى النظام، و وصلت في الرسالة بخصوصه إلى النظام من شتّى الأطراف الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، و في مقدمتها أمريكا، و لذلك بات الحديث عن عمل عسكريّ في الجنوب خارج النص، فاقتصر الأمر على رشقات من المدفعية بين الحين و الآخر في درعا، أو قصف جوي روسي على زردنا و بنش حمل رسائل سياسية إلى الضامن التركي، و هو الأمر ذاته الذي أبلغ به أيضًا بخصوص إدلب من الضامن و الشريك الروسي.
ثمّ إنّ النظام بالتخلي عن ثلاثة ملايين و نصف، قد أزاح عن كاهله عبئًا اقتصاديًا ضاغطًا، و هو غير راغب في الانغماس به مجددًا، ناهيك عن أنّه قد أدرك كثيرًا ممَّا يبغيه من الفصائل المعارضة، من خلال التعامل الأمني الذي أثمر بشكل فاعل.
فخلاياه النائمة تفعل فعلها في شتى قرى و بلدات المحافظة، و التقارير اليومية لا تنقطع عن الإرسال ( و من خلال شبكات الإنترنت التي ترعاها الفصائل بنفسها ) و من خلال جيوش الذاهبين و الآيبين إلى مناطقه؛ قد كفته مؤونة العمل العسكريّ.
و عليه فإنّ الحديث عن اقتحام الجنوب أو إدلب، و إعادتهما إلى حضن الوطن، لا يعدو أن يكون حديثًا للاستهلاك المحليّ، و لاسيما بعدما بات النظام أمام استحقاقات سياسية مهمة، بعدما تمّ الفصل بين القوى المتصارعة، و إخراج المسلحين إلى هاتين المناطقتين، و بشكل أكبر إلى الشمال، و باتت العاصمة و المناطق المتروكة له بعيدة عن أيّ تهديد، و مطلوب منه بناءً على ذلك أن ينخرط في الخطوة التالية، المتمثلة في العملية السياسية، الممهدة لإعادة الإعمار، التي باتت استحقاقًا ضاغطًا عليه.
و ما يمكن أن يقال في الطرف المقابل: علامَ لا ينفكّ النظام و حليفه الإيرانيّ، عن تذكرّ هاتين المنطقتين كلّ حين، ببعض العمليات العسكرية المحدودة؟
يذكر ( تيد غور: عالم أمريكي متخصص في الحديث عن عالم الثورات ) في كتابه ( لماذا يتمرّد البشر ): أنّ الثورات تمرّ ثلاث مراحل مهمة:
1ـ مرحلة الغضب الشعبي غير المنظّم؛ بسبب ضياع الحقوق و فساد الحُكَّام.
2ـ مرحلة انخراط القوى الثورية في تشكيلات، و ظهور ولاءات مختلفة عن الولاء الأساسي، و مبتعدة شيئًا ما عن أهداف الثورة الأولى.
3ـ مرحلة منافسة النظام الذي ثار عليه الناس، و ذلك بإنشاء بِنية حقيقة للثورة؛ لتقديم بديل ناضج يستطيع أن يُقنع الناس بأحقيّته في البقاء، و بذلك ينتصرُ على النظام الذي ثارَ عليه الناسُ.
و بتعبير آخر: إنّه في مرحلة مهمة تنتكس الثورة، و تعود الثورةُ المضادة، و لكنها في ذات الوقت تحمل عوامل انكسارها؛ و ذلك أنّه مطلوب منها أن تلبي رغبات الناس، و تفنّد الذرائع التي لجأ إليها مناوئو النظام في تبرير ثورتهم، و غالبًا ما يعجز النظام عن الإيفاء بالوعود التي قطعها على نفسه، لتبدأ بعدها المرحلة الرابعة، المتمثلة في عودة الثورة ثانية لتحقيق مبتغاها.
و هو الأمر الذي يدركه النظام جيدًا، و لذلك يرى المراقبون أن النظام ( أيّ نظام كان )، عندما تنهض الثورة ضده، يسعى جاهدًا للحيلولة دون بناء النموذج البديل؛ و ذلك أنّ الدول و المنظمات و المؤسسات الدولية لا تنزع الشرعية عن نظام قائم، إلى بديل غير فاعل أو مقنع.
و عليه فإنّ معركة النظام الحالية تتمثل في عرقلة فصائل الثورة، من الشروع ببناء نموذجها البديل، من خلال جعلها تعيش حالة اضطراب: عسكريًّا، و أمنيًّا، و اقتصاديًّا، و حتى اجتماعيًّا، معتمدًا على شبكة الخيوط التي نسجها في المجتمع، خلال سني حكمه الممتدة لخمسة عقود، أو من خلال التصارع بين مشروع الثورة الأساس و المشاريع الطارئة عليه.
و كِلا الأمرين حاصلٌ في إدلب على وجه الخصوص؛ و لا سبيل للخروج من ذلك إلاّ بإنهاء الحالة الفصائلية، و العودة إلى الشروع الأساس للثورة، و تغليب المصلحة العامة على المصالح الفصائلية، و الشروع ببناء المؤسسات البديلة، ذات المرجعية المركزية على شتى الصُعُد، و أهمها: السياسية، و العسكرية، و الأمنية.
و هو الأمر الذي يتعذّر الشروع به في الحالة السورية، من غير الاستعانة بالأطراف الضامنة، ذات الهيمنة و النفوذ، و المنخرطة في الملف السوريّ بكل تفاصيله، ممثلة بالأردن في الجنوب، و بتركيا في الشمال.
وسوم: العدد 777