بين السباعي والحوراني
زرت الأستاذ أكرم الحوراني في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء 25/2/1983 بصحبة الأستاذ شريف الراس، في بيته في حي المنصور في بغداد، وقلت له:
- كانت بينك وبين الشيخ مصطفى السباعي، رحمه الله خصومة..
- قال شريف: كان بينهما عداوة كار..
تابعت:
- وأذكر أنك اتهمته مرة بالخيانة والعمالة، في مقال لك في جريدة الصرخة، فيما أظن، وردّ عليك السباعي قائلاً:
- أنت وأنا نعرف جيداً من هم الخونة والعملاء، ومن هم المجاهدون والمناضلون الأحرار، فإن شئت كشفنا عنهم، ليعرف الشعب أعداءه وأصدقاءه..
ولم تردّ عليه.. ثم علمنا أو قيل لنا: إنك تراجعت عن اتهامك هذا، واعتذرت له.
سأل الحوراني: كتابة؟ أنا كتبت في الجريدة معتذراً؟
قلت: لا.. لم تكتب، ولكنك اعتذرت له شفهياً، وطويت صفحة الاتهامات.
كان الحوراني ساكتاً لا يجيب، فنظر إليّ شريف وقال:
- ندمك؟ (يعني ماذا تريد أن تقول؟).
فقلت: لقد مات السباعي، وأفضى إلى ما قدّم، وأريد رأيك فيه الآن، بعد مرور عشرين عاماً على وفاته.
هل هو خائن وعميل؟ هل هو رجعي متخلف؟ هل له ارتباط بالاستعمار والأحلاف الاستعمارية الغربية كحلف بغداد وسواه؟ هل كان عميلاً للإنكليز والأمريكان؟
كان الحوراني صامتاً، ولكن عينيه متحفزتان للرد، وعندما قال شريف:
- يا أخي اتركنا الآن من الماضي.. السباعي كان سبع البرنبه.. نريد الآن الخلاص من هؤلاء الخونة الحقيقيين الذين دمروا سورية.
تحرك الحوراني في مقعده، ثم تنحنح ونظر إلى شريف ثم قال:
- لا يا شريف.. سأل الأستاذ الطنطاوي، يجب أن أجيب على سؤاله.
ثم التفت نحوي وقال:
- الحقيقة.. السباعي كان وطنياً مخلصاً، وكان عروبياً تجري دماء العروبة في عروقه، وكان ثائراً على الاستعمار والأحلاف، والعملاء والخونة، وعلى الرجعية والتخلف، ولا يستطيع أحد أن يتهمه بأي تهمة أو يصمه بشيء مما تقدم.. على العكس، كان متطرفاً في وطنيته، متطرفاً في عروبته، متطرفاً في عدائه للاستعمار والأحلاف والعملاء، وكان اتهامي له بالعمالة للغرب كاتهامكم لنا بالعمالة بالشرق.
- والحقيقة؟
- الحقيقة كما قلت لك، وأزيد، أن السباعي كان ذكياً جداً، وقوي التأثير على من يلقاه من الخاصة والعامة، وكنت لا أسمح لأحد من رفاقنا بلقائه، وخاصة الضباط، كنت أخاف عليهم منه، ومن تطرفه الوطني والعروبي والإسلامي، وفي كل القضايا الوطنية والعربية والاجتماعية. لقد كان يأتي على يسارنا دائماً في القضايا التي نكون فيها يساريين، فهو يسار اليسار، كما يقولون.
كان يسبقني في كثير مما أنادي به.. في عدائه للاستعمار بكل أشكاله، وعدائه للأحلاف الأجنبية، حتى إنني قلت مرة لرفاقي في القيادة في جلسة مغلقة:
"أظن أنهم لن يتركوا الشيخ السباعي حياً.. سوف يقتلونه". سألني أحد الرفاق:
نظر إليّ مبتسماً وقال:
- الحقيقة.. كنت أغار منه، (لك العمى) ما ترك لنا شيئاً.. ننادي بتوزيع الأراضي على الفلاحين، فـــــ (ينتع) في البرلمان خطبة مدوية ينادي بها بتوزيع الأراضي، وإنصاف الفلاحين، وتطوير القرية والريف، وأنهم يجب أن يتمتعوا بالماء النظيف، والكهرباء والطرق المعبدة، والمستوصفات، كما عندنا في المدينة.. وأنا لا أستطيع أن أخطب مثلما يخطب.. كان أفصح من كل الخطباء في المجلس (النيابي) وفي غير المجلس.
ننادي بإنصاف العمال، فيسبقنا فيما ننادي به، ويزيد علينا بضرورة إيجاد قانون عمل عصري سليم ينصفهم، بل ويطالب بإنصاف صغار الكسبة من موظفين وباعة متجولين وعتالين وسواهم.
نادينا بالاشتراكية، فنادى بها، وجعلها ضمن منهاجه الانتخابي 1949، وشكل جبهة اشتراكية الإسلام.. لقد قرأت هذا الكتاب فأدهشني، واستفدت منه كثيراً..
كان شريف الراس يستمع إليه في دهشة، ثم قفز وصاح:
- لك العمى .. لازم تفرحوا، مو تزعلوا وتتهموا الرجل بالخيانة والعمالة للإنكليز والأمريكان..
قلت: طول بالك يا أبا المجد.
ثم التفت إلى الأستاذ أكرم وسأله:
- ماذا كان موقف الرفاق من احتمال اغتيال السباعي؟
قال الأستاذ أكرم:
- الحقيقة .. كلنا كنا نتمنى التخلص منه.
صاح شريف:
- الظاهر الاشتراكية تعلّم أبناءها الإجرام والخيانة العظمى.. إي والله وبشرفي لو كنت أعرف هذا، لانصرفت عنكم، وصرت خادماً عند السباعي.
قال الأستاذ أكرم:
- اسكت يا شريف.. أنت وأنا وسائر الرفاق كان رأينا في السباعي سيئاً..
صاح شريف:
- لأنكم كنتم تصورونه لنا ألعن من إبليس.. عميل إنكليزي، وتحت لفته ألف شيطان..
قلت للأستاذ أكرم:
- والآن؟ ألا تنصف الرجل في مذكراتك؟
قال: عندما أكتب مذكراتي أنصفه، وما سأكتبه عن الإخوان، أقصد به السباعي، فقد كان هو الإخوان، ولو رزق السباعي أعواناً أقوياء لأكلوا سورية كلها.
قال شريف:
- وتقول عنه: إنه أشرف من كل هالقوميين والاشتراكيين من بعثيين وشيوعيين؟
فسكت الأستاذ أكرم، وهو ينظر إلى شريف بتأنيب، فنهض شريف، وصاح بي:
- قمْ يا.. ما عدت أتحمل أكثر..
نهضت وقلت للأستاذ أكرم:
- هل هذا وعد منك يا أستاذ؟
قال:
- نعم وعد.. وسوف تقرأ هذا في مذكراتي.
خرجت مع الأستاذ شريف، وركبت إلى جانبه في سيارته، وأشعل سيجارة، وسحب سحبة أحرقت أكثرها، ثم أشعل أخرى، ويداه ترتجفان، وفكّأه يصطكّان، ثم أقلع بالسيارة كطيارة، فصحت به:
- على مهلك يا رجل..
قال: اتركوني أموت.. يا ليتني مت قبل أن أسمع ما سمعت من أبي جهاد.. هذا الذي كان مثلي الأعلى.
***
ودارت الأيام دورتها، ومات الأستاذ أكرم، وصليت عليه في مسجد الفيحاء في عمان، وشيعته إلى قبره في قرية ياجوز في جو عاصف قارس، وكان مجموع من شيعه سبعة عشر رجلاً، منهم أنا وصهري عبد الكريم. ولم يخرج شريف لتشييعه، واكتفى بالصلاة عليه، فقد بدأ شريف يصلي ويصوم بعد تعارفنا بقليل في بغداد. وبعد سفر الأستاذ الحوراني من بغداد، وإقامته في باريس.
وكلّفت أم جهاد صحفياً بنشر مذكرات زوجها في الصحف، وظهرت حلقة تحدث فيها الأستاذ أكرم عن السباعي، وعدّه مصلحاً دينياً، ولم يف بما وعد، فذكرت الأستاذ شريفاً بما حصل، فثار الأستاذ شريف، وهاتف السيدة أم جهاد، وذكر لها ما سمعناه أنا وهو من أبي جهاد حول السباعي، فقالت أم جهاد.
- الله يسوّد وجه هذا الصحفي الملعون الذي سود وجهي فيما نشر وغيّر وبدل واختصر، وأكل عليّ ما اتفقنا عليه من ثمن نشر المذكرات في الصحف، وأنا الآن أطبع المذكرات، وستكون في ثلاثة آلاف صفحة كبيرة جداً، وسوف تقرؤون ما كتبه أبو جهاد عن أستاذ صاحبك الطنطاوي، فأنا سمعت ما كان قاله لكم عن السباعي، وسوف ترون أنه أنصفه وأنصف غيره من المشايخ، فليطمئن صاحبك الطنطاوي. ثم أغلقت الهاتف.
قال شريف:
- سمعت ما قالته أم جهاد؟
قلت: سمعت .. ولكن المهم ما سوف نقرؤه، وأخشى أن تكون ظلمت الصحفي ناشر المذكرات. ***
وصدرت المذكرات، وقرأتها، فما وجدت الأستاذ أكرم صدق فيما وعد، ولم يزد على وصف السباعي بأنه مصلح ديني.
وسوم: العدد 779