هل الاقتداء بالجيل الأول مُلزِم؟!

يصوغ الناس تجاربهم، أحياناً، بعبارات جميلة، فتجري مجرى المثَل، حتى نحسَبَها قانوناً ثابتاً، وقد نجرّبها فيظهر خطؤها فنذمُّها ونستهجنها. ولو أننا أبقينا هذه العبارات في حجمها الصحيح لخرجنا من هذا الانتقال، من الثقة إلى الرفض.

مثلاً، يقولون: إن التاريخ يعيد نفسه، بمعنى أن ما نشهده من أحداث إنما يماثل أحداثاً مضتْ. ويقولون مرة: إنك لا تستطيع أن تستحمَّ بماء النهر مرّتين، لأن الماء يتبدّل كل آن. بمعنى أن لكل حدث ملابساته الزمانية والمكانية والظرفية التي تجعله متفرّداً.

والقول الأول صحيح، بمعنى أن هناك قوانين وسنناً اجتماعية تحكُم سلوك الأفراد والمجتمعات عبر الأزمان، وليس بمعنى أن الحدث الاجتماعي يتكرر كما تتكرر التجارب الفيزيائية. فالأحداث الاجتماعية تترافق بملابسات شتى، وعلينا أن نستنبط منها الخطوط الثابتة. والقول الثاني صحيح كذلك، وفق الاستدراكات المذكورة.

وبهذا المعنى: إذا أردنا أن يعيد تاريخنا أمجاده فما المقومات التي يجب أن تتوافر في هذه الإعادة؟.

إن تاريخ المسلمين الذي يجب أن نشتقّ منه نظام حياتنا، يبدأ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقترب أو يبتعد عن الوضع الأسوة، بقدر تمثّلِهِ بما كان عليه نبيّنا صلى الله عليه وسلم. وكما قال الشاعر وليد الأعظمي:

تاريخنا من رسول الله مبدؤه        وما عَداه فلا عِزٌّ ولا شانُ

فإلى أيّ حدّ نحن ملزمون باتباع طريقته في نشر الدعوة، وتربية الأنصار، والتعامل مع الأعداء...؟!.

لا نظن أحداً يفهم من هذا أن ننطلق من غار حراء، وأن نصعد على الصفا... ثم أن نقاتل بالسيوف والرماح... ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ، كما بدأ الأنبياء أجمعون، بغرس العقيدة الصحيحة، وتعميقها في القلوب، وصَوْغ المشاعر والأفعال والعلاقات... بما ينسجم معها. فلا ربّ إلا الله، فهو المستعان، وبيده وحده الرزق والأجل والنصر... ولا إله إلا هو، فهو المعبود، فلا يحب المؤمن أحداً كما يحب الله، ولا يخشى غيره، ولا يقبل شرعاً إلا منه.

وهذا كله لم يمنع النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستفيد من حماية عمّه أبي طالب، وأن يدخل في جوار المطعم بن عدي، وأن يأذَنَ لبعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وملكُها النجاشي لم يكن آمن بعد، ثم يأذن لهم بالهجرة إلى يثرب (التي أصبحت المدينة المنورة)، ويهاجر هو كذلك ويأخذ بأسباب الحيطة والحذر في كل ذلك...

لقد كانت البداية: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، مصداقاً لقول الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). {سورة النحل: 25}.

واستمرّ، عليه الصلاة والسلام، يتعهّد هذه العقيدة في النفوس إلى أن لقي ربّه. ولم يكن الحق والصواب في غير هذا الطريق، ولن يكون كذلك إلى يوم القيامة.

لم يبدأ، صلى الله عليه وسلم، بشعارات وطنية أو قومية، أو بإصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وحين اشتدّ العذاب على الصحابة في مكة، كان يقول لهم: صبراً. إن موعدكم الجنّة... بل إن الله تعالى لم يَعِدْ نبيّه بأن يُريَه النصر بعينه. (فاصبرْ إن وعْدَ الله حق. فإمّا نرينّك بعض الذي نَعِدُهم أو نتوفّينّك، فإلينا يُرجَعون). {سورة غافر: 77}.

وعندما يَعِدُ القائد أتباعه بسَعَة الرزق والرفاهية، ثم لا يتحقق لهم ذلك، سرعان ما ينفضّون عنه. نعم، كان صلى الله عليه وسلم يعدهم بأن الله ناصرٌ دينه لا محالة، وأن النصر مع الصبر، وأن عاقبة الصبر عطاء من الله يوم القيامة بغير حساب!. إنه الثبات على الحق ابتغاء وجه الله تعالى.

وكم يفترق هذا مع ما يفعله علماء السلاطين إذ يُشيعون في الناس قيماً هابطة تُضفي شرعيةً على نُظُم وتصرفات ظالمة، وتطلب من الناس تكييف حياتهم مع الباطل على أنه الحق!.

ولكن ماذا يفعل المسلم، لا سيما إذا كان موضعَ قيادة أو قدوة أو مسؤولية، وقد قامت أمامه العوائق الداخلية أو الخارجية، فلم يستطع أن يطبق شرع الله في موضع ولايته، بل لم يستطع أن يعلن الدعوة إلى دين الله؟. هنا يسلك المسالك الممكنة، و(لا يكلّف الله نفساً إلا وسعَها)، فيعمل على تطبيق ما استطاع من أحكام دينه في المجتمع، فيُصلح في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الثقافة... وفي الوقت نفسه يبقى عازماً على إنفاذ حكم الله كاملاً متى استطاع، ويلتزم حكم الله، بقدر استطاعته، في نفسه وفي أهله وفي علاقاته، وينشر العقيدة الحق والقيم الصحيحة بكل الوسائل المتاحة. وهو في ذلك يتلمّس سنن الله في المجتمع، فيَعلَم أن الصف الموحّد أحرى بالنصر، فيعمل على جمع الكلمة وترسيخ أسباب الوحدة واجتثاث أسباب التفرق. ويعلم أن وجود القائد الفذّ، ذي الفكر المنير، والرؤية الواضحة، والاستقامة في السلوك، والمحسن للقيادة، الآسر للقلوب (وهو ما يسمى اليوم بصاحب الكاريزما) أمر في غاية الأهمية لنجاح المشروع، فيعمل على البحث عن هذا القائد، أو تأهيله وإيجاده، ثم إعانته. ويعلم أن الناس من حوله ليسوا على درجة واحدة من الصداقة والعداوة، فيعمل على تكثير الأصدقاء والتقوّي بهم، وعلى تقليل الأعداء وتخذيلهم عنه. ويعلم أن السماحة والرحمة والعفو أقرب إلى خُلُق المسلم من القسوة والفظاظة والانتقام، فيتحلّى بخُلق المسلم، ويعلم أنه مأمور أن يقول للناس حُسناً وأن أولى مَنْ يقول لهم حسناً إنما هم إخوانه وحاملو مبدئه...

أو ليس هذا كله مما نضحت به سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟.

وإنه لفرق جوهري بين أن نقول: إن للمسلم، في حال الاضطرار، أن لا يعلن إسلامه، بل يطبق منه ما استطاع، ولو تحت كابوس حكم علماني... إلى أن يأذن الله ويفرّج الكرب، وبين أن نقول: إن الطريق الصحيح هو تسريب أحكام الإسلام تحت شعارات علمانية، وأن هذا سيؤدي إلى "أسلمة" المجتمع. كلّا، إن هذا هو الطريق الاضطراري الذي يسلكه المسلم إذا سُدّ في وجهه الطريق الصحيح.

وسوم: العدد 780