في هذه المرحلة العمرية الصعبة بالذات ، تعرض يوسف عليه السلام
لامتحان صعب والاختبار ، لا ولن يتجاوزه إلا القليل من الناس، في كل زمان وفي كل مكان . إنه الصراع بين الشهوة والعفة ، بين الغريزة الحيوانية وبين الفطرة السليمة ، بين تنظيم إشباع الغرائز وضبطها وفق ما تفرضه الشريعة الإلاهية والمعايير المجتمعية ، وبين الفوضى الغريزية والسلوكيات المنحرفة المنحلة ، التي تعبر عن الجانب البيولوجي الحيواني وبتعبير سيجموند فرويد " بين الهو الحيواني والأنا الأعلى " صراع نفسي يحدث في كل عصر ومصر .
فعند حب زليخة ،ابتلي يوسف عليه السلام ، وزلزل زلزالا شديدا . ولولا أنه كان يزن تصرفاته بميزان الله ، الذي لا يميل عن الصواب ولا ينحرف إلى الهوى النفسي ، ولولا أنه كان يهتدي بهدي الله ولولا فضل الله عليه ونعمته لسقط في الرذيلة [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ] " يوسف آية 23 "
ربما يكون الشيطان العدو المبين والنفس الأمارة بالسوء قد حدثاه بما لا ترضه النفس المؤمنة المطمئنة لربها ، قد يكونان حدثاه بالإقبال على الخطيئة . [ ولقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ] " يوسف 24 " وهذ ه قاعدة وقانون آخر ثابت ، لا يعرف التغير عبر الزمان ، والذي يمكن تسميته بالعناية والرعاية الإلاهية ، التي لا تفارق المخلصين الصالحين ، فتصرف عنهم السوء والفحشاء ، كلما هموا في الوقوع في السوء والخطيئة .
لقد رجع يوسف إلى نفسه وتذكر ما تلقاه من إحسان ومن تكريم ومعاملة حسنة من سيده فصعب عليه أن يرد الإحسان بالسوء ، والخير بالشر ، ويدفع الحسنة بالسيئة ، ويفعل الفاحشة في أهل من قدم له كل الإحسان مع كل الرعاية . وتلك هي الخيانة والظلم العظيم بعينه [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاد الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ] ( يوسف آية 23 )
إن هذا النوع من الخيانة ، والذي سماه يوسف عليه السلام بالظلم ، هو الآخر ظاهرة اجتماعية ، نجدها تتكرر في الزمان والمكان ، ولا أدل على ذلك من ما تعانيه المجتمعات المعاصر من هذه الخيانة ، إلى درجة أن بعض المجتمعات الغربية أصبحت تعتبرها ظاهرة طبيعية ، صحية ، تحولت عندها إلى ثقافة مقبولة ، تربي نشأها عليها وتشجعهم على الإقبال عليها ، وربما اعتبرت الرافضين لها ، شواذ خارجين عن التيار الاجتماعي ، الذي يبجل هذا السلوك المنحرف ، على أساس ومعيار كثرة انتشار الظاهرة و تكرارها في الوسط الاجتماعي ، ومن ثم لم يعودوا ينكرونها ولا يجرمونها ويقبلون نتائجها المدمرة بصدر رحب .
ولكن القرآن الكريم رأى في ظاهرة الخيانة دناءة وخسة ومهانة ، لها انعكاسات سلبية ذات أثر سيئ مهلك ومدمر للمجتمع فعالجها عن طريق الامتثال للقيم الأخلاقية والتشبث بالمثل العليا ، التي ترفض مقابلة الإحسان بالإساءة والسوء ، وتلزمنا بالوفاء لكل من قدم لنا معروفا وتشدد على عدم غدر من قدم لنا أي معروف أو الطعن في عرضه وعرض كل من هو عزيز عليه ، كما ترفض تعريض ماله للخطر والإفلاس ، وممتلكاته للإتلاف ... والرسول صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا وإسوتنا في الالتزام بخلق الوفاء ، قد حثنا على أن نتحلى بخلق الوفاء ورد المعروف وعدم نكران الجميل . يقول صلى الله عليه وسلم : (من أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) " رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني " ويؤكد الحق سبحانه وتعالى هذا الخلق النبيل وهو رد بعض المعروف والإحسان لمن أسدى لنا خيرا وإحسانا بقوله تعالى : [ إن أبي يدعوك لجزيك أجر ما سقيت لنا ] ( القصص آية 25 ) وفي آية أخرى بقوله تعالى [ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ] ( الرحمان آية 60 ) وبقوله أيضا [ ولا تنسوا الفضل بينكم ] ( البقرة آية 237 ) .
بعد المراودة ، وبعد اكتشاف محاولة الخيانة من سيد القصر ، وافتضاح أمر زليخة ، وبعد تلفيق تهمة المراودة ليوسف عليه السلام والادعاء زورا وكذبا ، بأنه أراد السوء بأهل سيد القصر ذو الأيادي البيضاء على يوسف ، والإحسان إليه ، وبعد أن اقترحت حكم السجن أو التعذيب الأليم ، تتدخل العناية الإلاهية ويشاء الله أن يكون القميص حاضرا لتبرئة يوسف عليه السلام ، من تهمة زليخة الخائنة ، كما كان في السابق ديلا على براءة الذئب من دم يوسف . يقول الله سبحانه وتعالى : [ واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] ( يوسف من آية 25 إلى 29 ) . تكرر لفض القميص ثلاث مرات في ثلاث آيات متتابعات ، وذلك لأهمية القميص كدليل لإثبات براءة يوسف عليه السلام . ولم يكن حسن ضن سيد القصر، بيوسف الذي أحبه منذ أن رآه ، وتعامله معه تعامل الأب مع الابن وثقته المطلقة به كابن ، كاف لتبرئة يوسف ، لأن في مثل هذه التهم العظيمة ، وخاصة منها تلك المتعلقة بالعرض والشرف ، لا تقبل فيها ولا تنفع معها العاطفة ولا حسن الضن ولا حتى قرابة الدم ، كدليل إثبات للتبرئة ، بل لا بد من دليل مادي قاطع وحجة ثابتة ، ولا يجوز شرعا ، انطلاقا من الآيات المذكورة آنفا مؤاخذة الناس بسوء الضن أو بحسنه ، أو باستخدام العاطفة والميل القلبي ، بل لا بد من حضور الحجج المادية المقنعة لإثبات التهم والادعاء . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الحجة والبينة : ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) " رواه بن عباس رضي الله عنهما " ومن بين الحجج التي يثبت ويظهر بها الحق غير الحجة المادية ، الشهود يقول الله سبحانه وتعالى : [ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ] ( البقرة آية 282 ) .
، إن قميص بوسف عليه السلام ، كان حجة مادية كافية لتبرئته ، أقنعت سيد القصر ، وجعلته يصدر حكمه القاطع ببراءة يوسف وإدانة زليخة فورا وبدون تردد . [ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] ( يوسف آية 28 و29 ) . من خلال قصة القميص إذن ، يكون الله سبحانه وتعالى ، قد وضع لنا قانونا تشريعيا ثابتا صالحا لكل زمان ومكان ، تشريعا يعتمد الحجة والدليل المادي الذي يمكننا من قطع الطريق على الظلم والظالمين ، أو نقلل على الأقل من آثاره الوخيمة على الفرد ، والمدمرة للأسرة والمجتمع .
إن الحرب بين الحق والباطل، كانت وستكون ولن تهدأ ، إلى قيام القيامة ، وإنما نوع الظلم ودرجته ونوع الظالمين وأعوانهم وجنودهم والمظلومين والضحايا هم من يتغير ، ولكن التشريع الذي وضعه الله في الآيات التي ذكرت سابقا من سورة يوسف وفي القرآن الكريم بصفة عامة ، يبقى محافظا على ثباته صالحا لكل زمان ومكان . فإن نحن التزمنا به عصمنا أنفسنا من الظلم ومن السقوط في الهوى النفسي ، فلا نضل ولا نخزى .
انتشر خبر خيانة زليخة انتشار النار في الهشيم
وسوم: العدد 781