المَأساة المُزْمِنَة للإنسان اليمني!

▪لم يُطلق الله اسم مملكة من ممالك الأرض على سورة من سُوَر القرآن الكريم سوى (سبأ)، وهي اسم مملكة يمنية قديمة اشتهرت ببناء السدود وبناء المدرجات الزراعية وأقامت حضارة عظيمة جعلت الرومان يسمونها بلاد العرب السعيد، وقد وصف الله ما منح أهلها من نِعَم ومِنَنٍ وآلاء، فقال: {لقد كان لسبأ في مَسْكنهم آيةٌ جَنّتان عن يَمين وشمال كُلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبةٌ وربٌ غفور}[سبأ: 15]، لكنهم لم يعملوا بهذا التوجيه ولم يعرفوا قيمة آية الجَنّتين، وإنما أعرضوا عن الأمر الإلهي وكفروا بالنعمة السابغة؛ فأرسل الله عليهم سَيل العرم الذي دمّر سدّ مأرب العظيم وجرَف تلك الجَنّتين دون أن يبقي لهما أثرا، وأبدلهم الله {بجَنَّتَيهم جَنَّتَين ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وأثْلٍ وشيئٍ من سِدْر قليل}[سبأ: 16]. ويبدو أن هذه النباتات الشوكية نقلت عدواها إلى الإنسان الذي تطَبّع بطباع الشوك وأصبح مؤلماً لبعضه!

▪ولم يكتفوا بذلك بل رفضوا منحة الأمان التي أعطاهم الله إياها، فقد كانوا يسيرون بين الشام واليمن وسط قرى كثيرة لياليَ وأياماً آمني لا يخافون على أنفسهم ولا على أموالهم، لكنهم افتقدوا الخوف واشتاقوا لروح المغامرة، فقالوا: {ربَّنا باعِدْ بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} في سابقة لم نسمع لها لاحقة، فتنزّلت عليهم العقوبة المستحقة والفريدة والتي قال الله عنها: { فجَعلناهم أحاديثَ ومزَّقْناهم كل مُمزَّق} [سبأ: 19].

▪ومنذ أن كفر أجدادُنا بالنعمة وقالوا ما قالوا؛ تحوّلت الآلاء إلى أرزاء واستحالت المزايا إلى رزايا، حيث أصبحت اليمن بيئة طاردة لأبنائها، وصار اليمنيون أحاديث للناس حتى أن العرب جعلوا منهم مثلاً، فقالوا: (تَفرّقَتْ أيدي سبأ)، وفي الحقيقة لم تتفرق الأيدي حتى تفرّقت القلوب، وبسبب قلة الموارد مقابل الانفجار السكاني المتواصل، وبسبب التفرق الدائم وتسيّد قيم التشظي والتمزق، وبسبب تسابق الغزاة على اليمن نتيجة موقعها الاستراتيجي؛ بسبب ذلك كله حَلّت الحروب باليمنيين وانعدم الاستقرار إلا في فترات متقطعة من الزمن!

▪ وفي القرون الأخيرة حلّت باليمنيين لعنة الفكر الإمامي ذي الطابع الطائفي والنزعة السلالية، فزاد الطين بلّة والداء استفحالاً، فقد استوطنت المآسي بلادهم المنكوبة بهذا الفكر، لدرجة أنها صارت مرضاً مزمناً لا يكاد يقترب الشفاء منه حتى يعود المرض على عجَل، ومن طريف ما يُروى في هذا السياق، ومن باب(شرّ البلية ما يُضحك)، ما قيل بأن مؤرخا مصريا يُدعى د. أحمد فخري زار اليمن في منتصف الأربعينات أيام حكم الإمام يحيى حميد الدين، وفي لقائه بأحد المعارضين لنظام الإمام سمع عن حالة اليمن العليل في كل مجال من مجالات حياته وماذا يحتاج لاستعادة عافيته، فقال له: تُذكِّرني حالة اليمن برجل وقف يوماً يدعو ربه فقال: اللهم خَلِّصني من البلهارسيا، وعافِني من مرض القلب، واشفني من الفشل الكلوي، وتَشمُّع الكبد...فسمعه الذي بجانبه وقال له ساخرا: (هو ربنا فاضي على شان يظل يُرقِّع فيك، ما يخلُق واحد جديد أسهل)!!

▪وفي فبراير 1948حاول اليمنيون الانتفاض ضد سرطان الإمامة، بعد أن تجمع عدد من أحرار اليمن بمساعدة من الجزائري الفضيل الورتلاني الذي ساعد على تنظيم التيارات المدنية، والعراقي جمال جميل الذي ساعد في تعبئة العسكريين، لكن ثقل التخلف كان كبيرا، حيث سقطت الثورة بعد ثلاثة أسابيع من نجاحها في قتل الإمام يحيى حميد الدين وسيطرتها على العاصمة صنعاء، لتدخل البلد في محنة كبيرة حيث استشهد المئات من علماء اليمن ووجهائها وقادتها على مذبح الجهل الشعبي والتآمر الإمامي!

▪وبعد ثورة 26 سبتمبر 1962 تخلّص اليمنيون من هذه الآفة التي كانت تجثم على مقاليد السلطة لكنها لم تقتلع ثقافة التخلف عبر محاريث الثقافة والفكر، ولذلك فإن اليمنيين قبل أن ينجحوا في تحقيق الخلاص النهائي عاد الإماميون من النافذة، وعادت الحسرة لتملأ قلوب المقهورين، وعادت الأحزان لترسم الكآبة على وجوههم، وحضر الانقسام ليمزق صفوفهم وينكد عيشهم، وعاد الاقتتال ليحصد أرواحهم العطشى للسلام والأمان، فقد تسلّق الإماميون أسوار الحزب الحاكم، ونتيجة الحسابات الخاطئة للحاكم الغشوم فقد سمح لهم بالدخول إلى قلب السلطة واحتلال أهم غرف البيت كجزء من رقصه على رؤوس الثعابين، لكنهم لدغوه لدغة قاتلة، بعد أن مكّنهم من مقاليد الجيش والأمن ومن خزائن الأموال، وبعد أن ساعدهم في الانقضاض على الشرعيات الدستورية والثورية والاجتماعية، ومكّنهم من الانقلاب على وثيقة الحوار الوطني والقرارت العربية والإسلامية والأممية وعلى التفاهمات المحلية والإقليمية والدولية!

▪وبعد انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية تهلهل ما بقي من نظام وسقط ما بقي من دولة، ليصبح الأمن والتماسك الاجتماعي في كَفّ عفريت، ولتحل على الضعفاء لعنة الاقتتال وتتفشّى فيهم كوليرا المليشيات، ولتتسيّد ثقافة الفيد والغصب واللصوصية، وتصبح شريعة الغاب وقوانين البحار هي السائدة، وليصبح نتيجة ذلك كله أكثر من عشرين مليون يمني تحت خط الفقر، حيث انتشرت البطالة وسط 80% من الذين هم في سن العمل، وتوقف الموظفون عن استلام مرتباتهم المتواضعة منذ عامين، وصار 18 من اليمنيين مهددين بالموت جوعاً ومنهم 2مليون طفل!

▪ وفي تلك الظروف الحالكة توقفت المؤسسات عن تقديم خدماتها الرديئة في الأصل، لتعود الأمراض التي انقرضت من أغلب دول العالم كالكوليرا والجُدري وشلل الأطفال، عادت لتحصد الآلاف من اليمنيين، حتى أن تقارير دولية تحدثت عن أن ضحايا الأمراض أكثر من ضحايا الحرب، ولا سيما أن أدوية الأمراض المزمنة والخطيرة لم تصل في كثير من الأوقات إلى مستحقيها، كالسرطان والقلب والسكر والفشل الكلوي، وشرب أغلب الناس مياهاً غير صالحة أحيانا حتى لري المزروعات، وغرقوا في ظلام دامس نتيجة الانطفاء المستمر للكهرباء، إلا من امتلكوا القدرة على شراء الطاقة الشمسية، واختفت المشتقات النفطية من محطات البيع المعتادة لتظهر بأسعار مضاعفة في الأسواق السوداء، وعادت تنّورَات الحطب، وأصبحت المياه النظيفة تساوي أضعاف قيمة النفط كما هو في سعره العالمي!

▪وبسبب كثرة الفواجع والمواجع اليمنية، فقد تحولت المأساة إلى مادة للتبكيت والتنكيت عند اليمنيين، الذين يملكون قدرة هائلة على التنفيس عن أنفسهم وعلى السخرية من ذواتهم، ومما يَرْوُونه في هذا الشأن أن رجلا أجنبياً لم يعجبه أحد الأشخاص فقال له: من أين أنت؟ قال: من اليمن، فقال له: تستاهل! ويَرْوون بأن اليمني من كثره همومه

وغمومه ومن كثافة مواجعه وديونه، فإنه عندما يتجه إلى ربه ليدعوه لا يدري من أين يبدأ، لكنه يعود ليقول : يا رب أنا من اليمن وأنت أرحم الراحمين!!

▪إن هذه الأوجاع المتتابعة والمآسي المزمنة تحتاج من الباحثين والسياسيين ومن يهمه أمر هذا الوطن وتُوجِعُه آلام هذا الشعب، تحتاج إلى القيام بتأسيس مراكز الأبحاث ودعم الباحثين من أجل إجراء دراسات علمية دقيقة تتولى تشخيص الحالة وتوصيف الداء؛ حتى تكون المعالجات شاملة والأدوية ناجعة، وحتى يتم تجفيف منابع هذا التخلف الذي يعتاش عليه المجرمون، وهذا لا يعني توقف الجهود الدائبة الآن لإطفاء نيران الفتنة ووأد جرائم الانقلابية في حق هذه البلدة الطيبة والرب الغفور!

وسوم: العدد 785