كيف تنظر الزوجات إلى أزواجهن وكيف تتحدث عنهم إذا خلين إلى بعضهن؟
من الآثار النفيسة التي وصلت إلينا عن المجتمع العربي قبل البعثة النبوية حديث "أم زرع " التي روته أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث فيه فوائد جمة لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث به عائشة رضي الله عنها ، فهو من جهة نموذج لما كان عليه النثر في العصر الجاهلي من قوة ومتانة وجزالة ، ومن جهة أخرى لأنه صور نماذج من العلاقة الزوجية السائدة في تلك الفترة في الوسط العربي البدوي أو لنقل الفطري.
ولقد حدث نبي الله عليه السلام زوجه عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث ليكشف لها عن طبيعة علاقته الزوجية معها ، وذلك لوجود نموذج لهذه العلاقة في هذا الحديث الذي قص حكاية إحدى عشرة امرأة كنّ زمن الجاهلية ، فجلسن ذات يوم ،فتعاهدن ،وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا أثناء غيابهم . وسنسرد هذا الحديث مع توضح لما جاء فيه لتقريب معناه من القراء الكرام ، ومع تعليق علي ما جاء فيه لاعتقادنا أن نماذج العلاقة الزوجية التي يصورها باقية إلى آخر الزمان في كل المجتمعات البشرية على اختلافها حضارة أو بداوة عسى أن يستفيد الأزواج والزوجات من ذلك، فيعززون العلاقة الزوجية السوية بينهم ، أو يصححونها إذا ما كانت معوجّة ليسعدوا بحياة لا تشوبها شائبة ، ولا ينغص عليهم سعادتهم فيها منغص.
ومناسبة الحديث كما تذكر ذلك كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زوجه عائشة وهي مع بنته فاطمة الزهراء رضي الله عنهما وقد جرى بينهما كلام فقال لعائشة : " أما أنت بمنتهية عن لبنتي يا حميراء ، إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع " ، فقالت حدثنا يا رسول الله عنهما ، فقال : " كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة ، وكان الرجال خلوفا ( أي غائبين )، فقلن : تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ، ولا نكذب ".
وروت عائشة رضي الله عنها الحديث كما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا
فقالت الأولى :
"زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل"
هذه الزوجة لم تكن علاقتها مع زوجها جيدة ، فذكرته بسوء حيث شبهته بلحم هزيل مستكره ، وهو فوق جبل وعر ، فلا الجبل سهل الصعود للوصول إلى االلحم ، ولا هذا الأخير يستحق تحمل مشقة الوصول إليه . فهذا نموذج الزوج الصعب المراس مع زوجته، لأنه كان بخيلا وسيء الخلق ، ومثله موجود في كل زمان و في كل مكان .
وقالت الثانية :
" زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف ألا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره "
هذه الزوجة لم ترد الخوض في الحديث عن علاقتها الزوجية مع زوجها، لأن حديثه سيطول لكثرة عيوبه، لهذا اكتفت بالإشارة إلى أنه كثير العيوب ظاهرة وباطنة، وقد عبرت عن ذلك بالعجر والبجر ، وهي عروق ظاهرة وباطنة تكون في الجسد ، وهذا نموذج الزوج السيء الخلق أيضا حتى أن عيوبه لا حصر لها ، ولا شك أنه كان أسوأ من زوج المرأة الأولى ، ومثله موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت الثالثة :
" زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق "
هذه الزوجة عبرت هي الأخرى عن علاقة زوجية مضطربة مع زوجها حيث ذمته خلقة وخلقا، فوصفته بطول قامة مذموم مع سوء خلق ، وكان تعيش معه إما مهددة بالطلاق أو معرضة للعنف . وهذا نموذج آخر للزوج المعيب الذي لا خير فيه ، ومثله موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت الرابعة :
" زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة، ولا سآمة "
هذه الزوجة عبرت عن رضاها عن حياتها الزوجية مع زوجها وعن ارتياحها معه ، فشبهته بليل تهامة ،وهي شريط ساحلي في شبه الجزيرة العربية على البحر الأحمر يكون فيها النهار حارا ، والليل لطيفا يطيب لأهلها ، فهذه الزوجة عبرت عن لذة عيشها مع زوجها التي هي كلذة أهل تهامة بليلها اللطيف ، لا تخشى زوجها ، ولا تسأم من عشرته . وهذا نموذج الزوج اللطيف مع زوجته ، ويوجد مثله في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت الخامسة :
" زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد "
هذه الزوجة عبرت أيضا عن رضاها بحياتها الزوجية مع زوجها لأنه وديع في بيته يشبه الفهد لوسامته وخفة حركته أو وثوبه ، وكثرة نومه لأن الفهد معروف بكثرة نومه ، كما أنها وصفته بالشجاعة خارج بيته فشبهته بأسد وبكثرة الكرم لأنه لا يتفقد ما استهلكت من ماله ، ويتغاضى عن ذلك لجوده وسماحته وأريحيته . ومثل هذا الزوج موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت السادسة :
" زوجي إن أكل لفّ ، وإن شرب اشتف ، وإن اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث "
هذه الزوجة عبرّت عن استيائها من علاقتها الزوجية مع زوجها ، وذمته لأنه يأكل ويشرب ولا يترك لها شيئا من الطعام والشراب ، وإذا نام ألتف ومعلوم أن الرجل يمدح إذا استقام في اضطجاعه ، ويذم إذا ما ألتف حول نفسه ، وذمته أيضا لأنه لا يهتم بها ، ولا يسأل عن أحوالها أو عما تبثه من شكوى ، ولا يلبي برغباتها بما في ذلك المعاشرة . ومثل هذا الزوج موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت السابعة :
" زوجي عياياء أو غياياء طباقاء ، كل داء له داء شجّك ، أو فلّك ، أو جمع كلا لك "
هذه الزوجة عبرت هي الأخرى عن استيائها من علاقتها الزوجية مع زوجها ، فذمته لأنه كان ثقيل الصدر ، عاجزا عن إتيان النساء ، وكثير العيوب لسوء خلقه ، وكان يعنفها فيشجّ رأسها أو يكسر عظامها أو يجمع لها هذا وذاك . وهذا النموذج من الأزواج موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت الثامنة :
" زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب "
هذه الزوجة لا ندري أهي راضية عن حياتها الزوجية مع زوجها أم العكس، لأنها وصفته بنعومة الجلد كالأرنب ، وبطيب الرائحة، علما بأن النعومة في الرجال مذمومة ، والطيب شأن النساء لا شأن الرجال ، فلعلها كانت غير راضية ذلك منه ، وربما كانت راضية فعبرت بهذه الطريقة عن لطفه معها . ومثل هذا النموذج موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان سواء اعتبرنا هذا الوصف مدحا أو اعتبرناه قدحا.
وقالت التاسعة :
" زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد "
هذه الزوجة عبرت عن رضاها بعلاقتها الزوجية مع زوجها ومدحته بأنه من الأشراف أصحاب البيوت المشهورة ذات الصيت الذائع ،وأنه شجاع ، وقد كنّت عن شجاعته بطول النجاد ، وهو حمالة السيف ، وأنه كريم ، وقد كنّت عن كرمه بكثرة الرماد ، و وأشادت بنجدته لمن يطلبه ، وكنّت عن ذلك بقرب بيته ممن يناديه عند الحاجة لأنه لا يحتجب عمن يناديه . ومثل هذا النموذج من الرجال موجود أيضا في كل زمان وفي كل مكان .
وقالت العاشرة :
" زوجي مالك وما مالك ؟ مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرة المبارك ، قليلات المسارح ، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك "
هذه الزوجة عبرت أيضا عن رضاها بعلاقتها الزوجية مع زوجها ، وأثنت عليه الثناء الحسن ، وكانت شديد الإعجاب به ، لأنه كان جوادا كريما نحّارا ينحر إبله للضيوف خصوصا حين يشرب ويطرب حتى أن إبله كانت إذا سمعت المزهر وهو آلة طرب موسيقية تتيقن من أنها ستنحر لتقام الولائم . ومثل هذا النموذج موجود أيضا في كل مكان وفي كل زمان .
وقالت الحادية عشرة :
( وهي بيت القصيد التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عنها زوجه عائشة رضي الله عنها ليشبه علاقته الزوجية معها بعلاقة هذه المرأة الزوجية مع زوجها )
" زوجي أبو زرع ، فما أبو زرع ؟ أناس من حليّ أذنيّ ، وملأ من شحم عضذيّ ، وبجحني ، فبجحت إليّ نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشقّ ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ، ودائس ومنقّ ، فعنده أقول فلا أقبّح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب فأتقمّح ، أم أبي زرع ، فما أمّ أبي زرع ؟ عكومها رداح ، وبيتها فساح ، ابن أبي زرع ،فما ابن ابي زرع ؟ مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة ، بنت أبي زرع ، فما بنت أبي زرع ؟ طوع أبيها وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها ، جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ، ولا تنقّث ميراتنا تنقيثا ، ولا تملأ بيتنا تقشيشا .
خرج أبو زرع ، والأوطاب تمخض ، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين ، يلقيان من تحت خصرها برمّانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلا سريّا ، ركب شريّا ، وأخذ خطيا ، وأراح عليّ نعما ثريا ، وأعطاني من كل رائحة زوجا ، وقال : كلي أم زرع ، وميري أهلك ، قالت : فلو جمعت كل شيء أعطانيه ، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع . قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كنت لك كأبي زرع لأم زرع " .
هذه الزوجة كانت راضية كل الرضا عن علاقتها الزوجية مع زوجها أبي زرع وقد أثنت عليه الثناء الحسن هو، وأمه، وابنه، وبنته، وجاريته ، أما هو فوصفته بحسن معاشرته لها ماديا ومعنويا ،لأنه كان يهديها الحليّ الذهبية ، وكانت تعيش عنده حياة الرفاهية وقد جاءت من بيت أبيها المتواضع لتعيش في بيت أبي زرع حيث الخيل والإبل والزروع والثمار، وكانت عنده مدللة قد بجّحها ، فلا يقبّحها إذا قالت شيئا ، وكانت نؤوم الضحى أي تنام إلى وقت الضحى لأنها كانت مخدومة ، وتشرب ما لذ لها من شراب بعد أن تستيقظ من غير عجلة ، وأما أم أبي زرع فوصفتها بأنها كانت كريمة سمحة خيراتها كثيرة وفي المتناول ، وأما ابن أبي زرع فوصفته بأنه كان شابا لطيفا ظريفا لا يقلق راحتها يمر بها مرور الكرام قدر ما يسل سيف من غمده ، ولم يكن أكولا شرها بل قنوعا يكفيه لبن عنزة صغيرة ، وهي صفات محمودة في الشباب ، وأما بنت أبي زرع فوصفتها بأنها كانت مطيعة والديها وجميلة القد والقوام تثير بذلك غيرة وحسد جاراتها ، وأما جارية أبي زرع فوصفتها بأنها كانت تكتم أسرار بيت أبي زرع ، ولا تفشي منها شيئا ، ولا تخون ولا تسرق ، وكانت جيدة الطبخ حريصة على اتقان الخدمة ، كل ذلك لترفع من قدر زوجها أبي زرع لشدة تعلقها به .
وحدث أن مرّ أبو زرع يوما بامرأة لها توأمان ترضعهما فأعجبته ، وطلبها للزواج، وربما لم ترض عن ذلك أم زرع غيرة منها كعادة النساء في كل زمان ، فطلقها بسبب ذلك ،وتزوج أم التوأمين ، وتزوجت هي رجلا غيره لم يكن أقل مكانة من أبي زرع حيث أشادت بفروسيته وشجاعته وكرمه الواسع، وقد عدد منه نعما أنعم بها عليها، وأمرها أن تصل أهلها بالميرة من رزقه، ومع ذلك ظلت تفضل أبا رزع عليه إلى درجة أنها جعلت كل نعم زوجها الثاني لا تساوي أصغر آنية أبي زرع لمكانته في نفسها ولحبها له، وبسبب العلاقة الزوجية النموذجية التي كانت تجمع بينهما . ويكفي أن يصدر هذا الموقف أوهذه الشهادة من زوجة مطلقة في حق طليقها لتدل على علاقتهما الزوجية المثالية .
خلاصة واستنتاج :
يبدو من حديث أم زرع أنه يشير إلى نموذجين من وجهات نظر الزيجات في أزواجهن إذا خلين إلى بعضهن ، وهما نموذجان يتكرران إلى نهاية العالم في كل الأزمنة والأمكنة وهما :
1 ) نموذج الزوج السوء الذي لا خير فيه ، ولا صبر للزوجة على تحمل سوئه ، وقد كثرت عيوبه ، وتعددت ظاهرة و باطنة ، وهو على الدوام مصدر تهديد لزوجته إما طلقها أو عنّفها ،فشجّها أو كسر عظامها ، وهو أناني ذو شره إذا أكل أو شرب أو اضطجع، لا يبالي بها أكلت وشربت أم لم تأكل وتشرب ، ولا يراعي مشاعرها ولا نفسيتها ولا حاجتها ولا حقوقها ...
2 ) نموذج الزوج الحسن الذي ترتاح إليه زوجته، فلا تخشاه، ولا تسأم من الحياة معه ، وهو سمح يتغاضى عما يصدر عنها، و جواد كريم لا يحاسبها عما استهلكت أو ضيعت ، وهو حسن المعاشرة داخل البيت ، وسيد محترم مهيب خارج البيت ، وهو لين لطيف من حسن معاملته لها ، وهو من بيت شرف، ورفعة، وشجاعة، وجود، وكرم، مضياف ، وصاحب نجدة . وهو يكرم زوجته ويبجحها ويدللها ، و يحسن معاملتها ،فلا يقبحها ، ولا يرهقها بخدمة ، بل يوفر لها من يخدمها، فتنام لتستيقظ متى شاءت ، وتصيب ما لذ وطاب من طعام وشراب ، ويهديها ما اشتهته من حليّ وزينة وعطر ، ويكرم أهليها وتصلهم ميرته .
هذان نموذجان يتفاوت الأزواج فيهما بقدر ما فيهم من سوء أو حسن مع الزيجات.
وعلى كل زوج في مجتمعنا أن يعرض نفسه على هاذين النموذجين ليعرف قدره أولا ، وليعرف مكانته عند زوجته أو زوجاته، لأن ما صرحت به تلك النسوة زمن الجاهلية هو ما تصرح به النسوة في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، فقد تتعدد أشكال الانتقادات الصادرة عن الزيجات حسب ظروف كل عصر ، وتتعدد أشكال الإطراء على الأزواج أيضا ، ولكن تبقى النتيجة في النهاية واحدة ، هي وجود نموذجين من الأزواج كما مر بنا .
وجدير بمن استيقنت نفسه تقصيره في علاقته الزوجية مع زوجته بشكل أو بآخر أن يصحح مساره ، ويقوّم اعوجاجه ، ويتخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة وإسوة إن كان حقا مؤمنا قابلا للنصح منتصحا ،وإلا فلا خير فيمن عرف ولم يلزم ، ولا خير في من يفرك زوجته إن كره منها خلقا أحب آخر .
وأخيرا على الزيجات أن يكن كالنساء اللائي ذكرن أزواجهن بخير خصوصا أم زرع ، وخير منها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي كانت حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى من ابتليت بزوج فيه عيوب أن تستر عيوب زوجها كما فعلت تلك التي أحجمت عن ذكر عيوب زوجها وهي قادرة على ذكر ما ظهر منها وما بطن كما يكشف عن العجر والبجر في الجسد . وشر النساء من حدثت عن زوجها بسوء وهي في عنقه ، ولم تتق الله فيه وهي مطلقة فتذكره بما ذكرت أم زرع زوجها أو تترفع عن ذكر عيوبه إن كان معيبا .
وسوم: العدد 787