الدولة الإسلامية: مدنية

دندل جبر

الدولة الدينية:

الدولة الدينية:هي الدولة الثيوقراطية

والثيوقراطية: هي كلمة مأخوذة من كلمتين يونانيتين: "شيوس" بمعنى الله، و"قراطوس" بمعنى قوة أو سلطان.

والدولة الدينية هي التي تخضع لسلطة هيئة دينية يمثلها رجال الدين المسيحي (الإكليروس)، بصفتها الواسطة الوحيدة بين الناس وربهم، وهي الوصية على شؤونهم الروحية والزمنية على حد سواء، بادعائها الصلة الإلهية المباشرة معها، وأخذ التعليمات من الله لإدارة أمورهم في حياتهم الجسدية، والروحية وادعاء العصمة من الله تعالى لهذه الهيئة الدينية التي تتولى أمور البلاد والعباد.

الإسلام وسلطة الهيئة الدينية:

الإسلام لم يعرف ازدواج مصدر السلطة الروحية والزمنية، ولذلك لا ينسب الإسلام إلى الدولة الدينية ولا الدولة الدينية تنسب إليه فالإسلام يخلو من مثل الهيئة الدينية التي تدعي العصمة والصلة المباشرة مع الله، وأنها وحدها المفوضة وصاحبة الحق بإصدار الأوامر الإلهية كما يزعم أعضاؤها.

والإسلام لا يعترف أن بين أتباعه رجال دين، بل علماء في أمور دينهم، وهم لا يدعون العصمة، لأن العصمة في العقيدة الإسلامية خاصة بمن ارتضى الله من نبي أو رسول والرسالة والنبوة انقطعتا بخاتمة الرسالات – رسالة الإسلام – كما انقطعت النبوة بآخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

وهؤلاء العلماء كما أنهم لا يدعون العصمة، فكذلك لا يدعون الصلة المباشرة مع الله، لأن الصلة تكون عن طريق الوحي، والوحي انقطع بوفاة آخر أنبياء الله ورسله محمد صلى الله عليه وسلم.

 

مرجعية الدولة الإسلامية:

مرجعية الدولة الإسلامية في أحكامها هي الشريعة الإسلامية المتمثلة بأهم مصادرها الأصلية كتاب الله (القرآن الكريم وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الصحيحة).

والنصوص في هذين المصدرين هي نصوص قطعية الثبوت، وهي من جهة دلالتها تنقسم إلى قسمين:

1- نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة على حكمها، وهي ما دلت على معنى متعين فهمه لا يحتمل التأويل ولا مجال لفهم معنى غيره منه، وهذا النوع لا يقع تحت مجال الاجتهاد مطلقاً.

2- نصوص قطعية الثبوت وظنية الدلالة، وهي ما دلت على معنى ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معنىً غيره... فالنص المشترك أو الذي فيه لفظ عام أو لفظ مطلق أو نحو هذا يكون ظني الدلالة يدل على معنى ويحتمل الدلالة على غيره.

فالأحكام الشرعية التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، ويضاف إليها الإجماع.. ثابتة مستقرة لا يملك أحد التغيير أو التعديل فيها سواء كان الحاكم أو الأمة أو المجتهدين.

أما النصوص قطعية الثبوت ظنية الدلالة التي تحتمل أكثر من معنى فيمكن نتيجة الاجتهاد فيها أن يخرج المجتهدون بأكثر من حكم وعلى عدد الاحتمالات التي يحتملها النص، ويضاف إليها في مجال الاجتهاد الأمور التي لم يرد فيها نص معتبر وهي ما يسمى بالمصالح المرسلة.

الاجتهاد:

إن العصمة البشرية التي يختص الله بها رسله وأنبياءه، والوحي الإلهي انتهيا بوفاة آخر الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار رسالته آخر الرسالات وهو آخر الأنبياء والمرسلين، وهذا يعني أنه لم يبق أمام علماء المسلمين إلا الاجتهاد في فهم النصوص واستنباط الأحكام منها وفيما لم يرد فيه نص معتبر.

المصلحة المرسلة:

المصلحة المرسلة: هي التي لم يقم عليها دليل باعتبارها أو إلغائها، ولكن ترتبط بها مصالح الناس.

ومن شروط الاحتجاج بها:

1- أن تكون المصلحة حقيقية، ومعنى ذلك أنها تؤدي جلب منفعة أو دفع مفسدة.

2- أن تكون المصلحة عامة وليست شخصية، ومعنى ذلك أن الأخذ بها يؤدي إلى مصلحة عامة ينتفع بها جميع الناس.

3- أن لا تكون المصلحة مخالفة لحكم ثابت بالنص قطعي الثبوت والدلالة. أو الإجماع.

أما النصوص غير القطعية في ثبوتها أو دلالتها فقد اختلف العلماء في مدى صحة تقييدها أو تخصيصها بالمصلحة:

- قال الشافعي: لا يجوز تخصيص النص بالمصلحة المرسلة مطلقاً.

- وقال الحنابلة: يجوز الأخذ بالمصلحة المرسلة عند عدم وجود النص الشرعي، فإذا وجد النص الشرعي، ولو كان غير قطعي فإنه يقدم على المصلحة.

- أما علماء المذهب المالكي فقد أجازوا الأخذ بالمصلحة المرسلة، كما أجازوا تقييد النصوص غير القطعية بالمصلحة عند التعارض.

- الأستاذ مصطفى الزرقا يرى أن علماء الأحناف يجيزون تقييد النصوص بالمصلحة المرسلة مخالفاً بذلك الشيخ أبو زهرة في هذا الأمر والاجتهاد باعتباره الوسيلة التي تبحث في فهم مضامين النصوص ومراد الشارع من كتاب وسنة، والبحث في حكم ما لا نص فيه، هو جهد بشري ضمن شروط وقيود معينة يستعين بها المجتهد في بحثه.

الاجتهاد والعقل:

إن أداة الاجتهاد في النصوص هي العقل، الذي أخذ مكانة عالية في المفهوم الإسلامي، فهو مناط التكليف بالأوامر والنواهي الإسلامية، وهو أداة الإدراك والفهم لمضمون النصوص الشرعية، وبدونه لا يكلف الإنسان بأي أمر من أمور الشريعة سواء كان أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر والعقل في شريعة الإسلام وعقيدته مخلوق خاضع لأحكام النصوص القطعية الثبوت، وتعلوه وتتقدم عليه، باعتبارها منزلة من لدن عزيز حكيم يقيناً، وهو بحسب الاستعمالات القرآنية لا يمكن أن يكون ذاتاً مستقلة بل هو أداة تقوم بدور مترجم النفس للنصوص الشرعية وفق قواعد وقيود قيد بها نفسه تبعد عنه الانحراف وتوفر له الثقة والاعتبار وهو ليس كما يقول العلمانيون: أنه قادر على تحقيق السيطرة التامة على الطبيعة وعلى إدارة العالم، وأنه ليس بحاجة إلى أي شيء آخر خارج الإطار الطبيعي المادي حيث تصبح مرجعية الإنسان كامنة في ذاته كما يزعمون.

الشريعة الإلهية والقانون المنبثق عنها:

بما أن مرجعية الدولة الإسلامية هي الشريعة الإسلامية فلا بد من البحث في التمييز بين شريعة كتاب الله وإرادته جل شأنه فيه، وبين القانون الذي هو محاولة تحويل هذه الإرادة الإلهية إلى وسيلة للحكم على الأرض، وأداة للدولة بأحكام مدنية محددة ومصوغة حسب حاجات الدولة والنظام الاجتماعي بحيث تصبح مختلفة في بعضها ومتطابقة في بعضها الآخر مع الشرع الإلهي.

وهذا الاختلاف نابع من أن الإرادة الإلهية في النصوص الشرعية تتحول إلى تعبير عن إرادة المجتمع والجماعة عن طريق الاجتهاد في هذه النصوص – كجماعة مدنية من البشر - .

وإذا نظرنا إلى الإجماع على أنه تحصيل لرأي عام مستمد من فهم وتفسير وتأويل مجموع المسلمين للشرع.... هو الذي يعكس مفهوم الاجتهاد كمشاركة ومساهمة للأمة في رعاية مصالحها وفهم دينها وتقرير مصيرها، وهو الذي يحول الشرع إلى قانون، أي إلى حكم يقر من قبل بشر على بشر ولصالحهم وبأيديهم، وهو بهذا يتحول إلى حكم مدني إنساني في الوقت ذاته.

يذكر الجرجاني ضرورة تمييز الشريعة بما هي دين منسوب إلى الله – أي مصدره الله – وبين الشريعة بما هي مذهب فقهي واجتهاد منسوب للمجتهد، والخلط بينهما يهدد بأن يحول البشري والمدني الإنساني إلى إلهي.. وبمعنى آخر ليس الفقه هو القرآن الكريم ولا الترجمة الحرفية له.

وهذا التمييز بين الشريعة الإسلامية وبين الشريعة بما هي مذهب فقهي واجتهاد منسوب للمجتهد، هو تمييز قائم على التقابل بين نص إلهي ثابت يقيناً وبين اجتهادات بشرية قابلة للمطابقة أو عدمها مع ذلك النص الإلهي، ومما يدل على ذلك ما رواه أبو هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهدوا فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد" (جامع الترمذي – كتاب الأحكام – باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطئ – وهو حديث حسن – رقم الحديث 1326) وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" (مسلم – كتاب الأقضية – باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة – رقم الحديث 4493/4. – البخاري – كتاب المظالم – باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه – رقم الحديث 2458) وهذان الحديثان يدلان على أن المجتهد يمكن أن يخطئ كما يمكنه الصواب في اجتهاده، وأنه يمكن أن يحكم  بالميل عن الصواب نتيجة عدم وصول المعلومة الصحيحة التي تمكنه من عدم الوقوع بالخطأ.

فالدولة الإسلامية، حكامها ومعاونوهم الذين يدبرون شؤونها بشر من بني الإنسان، مرجعيتهم في أحكامهم الشريعة الإسلامية ضمن ما يفهمونه من نصوصها ومراد الشارع من تلك النصوص، من خلال اجتهاداتهم البشرية واستنباطاتهم العقلية البشرية، فهذه الأحكام بشرية، قد تتطابق مع مراد الله في كتابه العزيز وسنة نبيه الصحيحة وقد لا تكون كذلك فهي دولة مدنية وليست دينية تخضع لهيئة دينية تدعي العصمة وتدعي الصلة المباشرة مع الله تعالى كما كان حال الكنيسة في الغرب قبل ما يسمونه عهد التنوير والثورة عليها وإنهاء سلطتها في ازدواجية السلطتين الروحية والزمنية.

مصدر السلطة الحاكمة:

في النظام الإسلامي مصدر السلطة السياسية في الدولة الإسلامية (أي حكامها) هو الاختيار الحر من قبل الأمة إما مباشرة أو بواسطة من ينوب عنها كمجلس الشورى أو مجلس نواب الأمة، وليس مصدر هذه السلطة تفويضاً منصوصاً عليه من الله كما يزعم البعض قال البغدادي في أصول الدين: قال الجمهور الأعظم من أصحابنا – يقصد أهل السنة والجماعة – ومن المعتزلة والخوارج والبخارية: إن طريق ثبوتها – أي الإمامة – الاختيار من الأمة (أصول الدين للبغدادي – ص279).

وإن الإمام إذا أراد الاستعفاء من منصبه فإنه يتقدم بذلك إلى الأمة، فالأمة هي التي تعين وهي التي تقيل وهي التي يطلب إليها الاستعفاء، فدل ذلك على أنها هي صاحبة الحق في السلطة السياسية ابتداء وانتهاء.

يقول البغدادي: "ومتى زاغ (أي الحاكم) عن ذلك كانت الأمة عياراً عليه في العدول به عن خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه (معاونيه) وقضاته وعماله وسعاته إن زاغوا عن سنته عدل بهم أو عدل عنهم" (أصول الدين للبغدادي – ص287).