رؤية الريسوني لتجديد علم أصول الفقه
في كتاب له جديد صدر قبل شهور، حمل عنوان "علم أصول الفقه في ضوء مقاصده" يرسم المفكر المغربي والعالم الأصولي المقاصدي الدكتور أحمد الريسوني رؤية واضحة لتجديد علم أصول الفقه، الذي يعد من أعظم وأهم العلوم المنهجية التي أنتجها المسلمون للتعامل مع النصوص الشرعية، ولضبط طرق الاستنباط منها، وتقليل تَحَكُّمِ الأهواء وحضورها في عملية قراءة النصوص والتعامل معها.
وقد أولى علماء المسلمين عناية كبيرة بهذا العلم منذ الإمام الشافعي واضع حجر الأساس لهذا العلم، مرورا بابن حزم والجويني والغزالي وعز الدين بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وغيرهم من علماء الإسلام الأفذاذ ذوي العقول الذكية الذين شيدوا صروح هذا العلم، وانتهاء بأبي زهرة وعبد الوهاب خلاف ومحمد الخضري حسين ومحمد الأمين الشنقيطي وغيرهم من العلماء المعاصرين الذين أعادوا صياغته وترتيبه.
وقد ظهرت في العصر الحديث دعوات لتجديد علم أصول الفقه وإعادة النظر في مباحثه، ولكن أغلب أصحاب هذه الدعوات لم يقدموا رؤية واضحة لتجديد علم أصول الفقه، وهذا ما دفع الكثير من العلماء إلى معارضة تلك الدعوات لضبابيتها، ثم لما يتضمنه بعضها من نوايا سيئة هدفها ليس هو التجديد وإنما هو هدم الدين بعد التخلص من أهم أدوات التعامل مع نصوصه، وإلغاء مباحثها أو الاستعاضة عنها بأدوات منهجية أخرى نشأت في سياق حضاري مغاير للسياق الحضاري والثقافي الذي في ظله نشأ الفكر الإسلامي ونما ونضج.
وتتميز دعوة الريسوني لتجديد علم أصول الفقه، بأنها صادرة من عالم ضليع في الأصول والمقاصد، ومشهود له من الجميع بالفضيلة الخلقية والنزاهة العلمية، والأهم من هذا أن الريسوني وضع رؤية واضحة لتجديد هذا العلم، ولم يكتف بالكلام العام. تدور هذه الرؤية حول محورين:
إعادة التذكير بالمقاصد التي من أجلها تأسس علم أصول الفقه
وهذا أمر في غاية الأهمية، فإن أي علم مهما كان لا يمكن التجديد فيه تجديدا له قيمته العلمية والمنهجية إلا من خلال مراعاة فلسفته التي عليها قام وتأسس، ومن هنا كان التذكير بمقاصد أصول الفقه هو البداية والمدخل للتجديد فيه، لأن هذه المقاصد هي الميزان الذي من خلاله يمكن تقويم الإنتاج الأصولي وتحليل جوانب النقص والقصور فيه. ومن أهم مقاصد علم الأصول التي ذكرها الريسوني: معالجة قضية الاختلاف في الدين وما صاحبها من إشكالات وتساؤلات وانقسامات، وتقعيد القواعد لتفسير النصوص، وضبط عملية الاجتهاد في الدين، ثم بعد هذا كلها تقعيد منهج التفكير الإسلامي والاستدلال العلمي.
فمن المعلوم لدى الدارسين والمهتمين بتاريخ التشريع الإسلامي، أن الإسلام أحدث ثورة ثقافية وفكرية عظيمة، "تميزت في عهودها الأولى بجرأة وحرية بالغتين في التفكير والتعبير. وهذا ما فتح أبوابا واسعة للاختلاف وتعدد الآراء والأقوال" في كافة مجالات المعرفة الإسلامية، وخصوصا منها المجال الفقهي، الذي نشأت فيه مدرستان متباينتان: مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي. وقد أشتد الخلاف بينهما حتى تحول إلى خصومة وصراع قسم المسلمين إلى فرق متنافرة. وهنا وفي رحم هذا الجو المشحون بالاختلاف وغياب العلم المنهجي الهادي ولد علم أصول الفقه مع رائده الأول الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 ه)، من خلال كتابه "الرسالة".
رؤية الريسوني لتجديد علم أصول الفقه
هي إعادة فحص علم الأصول وتحديد جوانب النقص فيه وجوانب القصور -أو بحسب تسمية الريسوني جوانب "الدَّخَنِ والوهن"- التي دخلت عليه. ويذكر الريسوني هنا أن أول ما دخل الدَّخَنُ في علم أصول الفقه كان يوم تم مزج علم الكلام والمنطق به، وليست هذه ملاحظة خاصة بالريسوني بل هو مسبوق إليها من طرف العديد من العلماء.
يقول الريسوني: "علم أصول الفقه –كما هو معلوم- ولد ونشأ ملتحما مع الفقه ومنبثقا عنه، وعن متطلباته، كما يدل على ذلك اسمه (أصول الفقه)، ولكنه على أيدي المتكلمين بدأ يبتعد عن الفقه، ويرتبط أكثر فأكثر بعلم الكلام، ومن خلاله بالمنطق والفلسفة"(ص60). أي أنه بدأ ينحرف عن مقاصده إلى أشياء أخرى لا تدخل في غاياته وليست هي من صلبه أو بحسب الإمام الشاطبي بدأت تدخل فيه "المسائل العارية".
وقد نتج عن هذا تحول مباحث أصول الفقه إلى مباحث استعراضية للمران العقلي ولا علاقة لها بمباحث الأصول، ومن ذلك إدخال الكثير من القضايا الكلامية إلى هذا العلم وشحن كتبه بها (مثل عصمة الأنبياء، وحكم الأفعال قبل ورود الشرع، والتكليف بالمحال، والتكليف بالمعدوم...) وغير ذلك من المباحث التي لا ينبني عليها عمل ولا علاقة لها بأصول الفقه، كما تم صبغ المسائل الأصولية بالصبغة الكلامية، مما عقدها، وقد دفع هذا الإمام الصنعاني -وفق ما نقل عنه الريسوني، ص67- إلى القول: "وإذا تأمل الناظر في تباين آراء الجهابذة في (حد العلم) استغاث بالله عز وجل".
ولم يقتصر التحول الذي طرأ على علم أصول الفقه مع دخول علم الكلام عليه على انحرافه عن مقاصده، بل إن هذا التحول وصل درجة جعلت بعض من كتبوا في أصول الفقه تغلب عليهم روح هواية الجدل وتكثير الخلاف، وهي الروح التي تأسس علم الأصول في أول الأمر من أجل محاربتها وتضييق نطاقها من خلال رسم طريق سواء تضيق نطاق الاختلاف، وهنا يرى الريسوني أن المتكلمين جعلوا من ساحة أصول الفقه "مرتعا خصبا للخلاف والجدل، بل وأداة فعالة لتطريقهما وتكثيرهما. ثم ما لبثوا أن بدأوا يتحدثون عن: (علم الخلاف)، و(علم الجدل)، و(صناعة الجدل)..."(ص71)، وغير بعيد من هذا ظاهرة تكثير الخلاف اللفظي التي ذاعت وانتشرت في كتب الأصول.
وقد انعكس هذا التراجع في أصول الفقه بشكل سلبي على الفقه، الذي ساد فيه الجمود والتقليد -بعد أن فقد أصول الفقه وظيفته وتضاءل الاعتماد عليه-، وقد اشتدت وطأة موجة التقليد والجمود الفقهي بشكل تدريجي حتى ظهر القول بإغلاق باب الاجتهاد والدعوة إلى الاكتفاء بالمذاهب الأربعة. "وفي مثل هذا المناخ وفي ظل هذه الثقافة، لم يبق لعلم أصول الفقه الكثير مما يؤديه ويحتاج إليه فيه. فأصبح يتعلم ويدرس فقط لأجل الاطلاع عليه ضمن العلوم والمواد الدراسية، وربما وفاء وتبركا. وفي أحسن الأحوال لأجل التمرين الفكري"(ص81).
وتطرق إلى تحديد الجوانب أو المجالات التي ينبغي أن يتم من خلالها التجديد الأصولي، من أجل أن يستأنف هذا العلم "مكانته القيادية على صعيد العلوم الإسلامية، وعلى صعيد الفكر الإسلامي"(ص88). وهنا يرسم الريسوني مسارين لتجديد علم أصول الفقه:
المسار الأول
هو تحرير أصول الفقه من "الدَّخَنِ والوهن" الذي أصابه، وإعادته إلى سابق عهده، وذلك بتخليصه من المنطق وعلم الكلام، وحذف المباحث التي ليست من صلبه وليست لديها وظيفة منهجية منه، ثم ربطه بالواقع وبالأمثلة الفقهية الحية.
المسار الثاني
هو توسيع المباحث الأصولية التي لم تنل ما تستحق من البحث والدراسة، واجتراح قواعد أصولية جديدة "تستثمر الفرص والإمكانات، وتسد ما ظهر من الثغرات والإشكالات"(ص89)، والإفادة من القواعد المنهجية لعلم الاجتماع وتوظيفها في علم الأصول.
وسوم: العدد 799