هل تعزز العقوبات النشاط الإقليمي لإيران فعلاً؟
نشرت «مجموعة الأزمات الدولية» في نوفمبر الحالي تقريراً تحت عنوان «لا منطق لإعادة فرض العقوبات الأميركية على إيران» تجادل فيه بأنّ إعادة فرض العقوبات الأميركية ضد النظام الإيراني هي خطوة خاطئة لأنّها لن تؤدي الى دفع النظام الايراني باتجاه تغيير سياساته الإقليمية كما يأمل المسؤولون الأميركيون، بل على العكس فقد تعزز العقوبات من النشاط الإقليمي لإيران بدلاً من كبح جماحه!
ويدعم التقرير زعمه هذا بتحليل أداء الاقتصاد الإيراني والسياسات الإقليمية التي اتّبعها نظام الملالي على مدى ٤٠ عاماً، ثم يدرس العلاقة بين العاملين ويصل الى استنتاج مفاده انّ النتيجة بالكاد تُظهر علاقة تناسبية بين الأمرين؛ حيث استمرت طهران باتباع سياسات تعتبرها حيوية لأمنها القومي بصرف النظر عن درجة رفاهها الاقتصادي في الداخل.
ويضيف التقرير بأنّه على العكس من ذلك، فإن مدى شعور الجمهورية الإسلامية بالتهديد أو بوجود فرص في جوارها هو الذي يحدد سلوكها بدرجة كبيرة، ويرى أنّ البديل لسياسة العقوبات هو إقرار إدارة ترامب بما سمّاه «مصالح إيران الإقليمية»، والاعتراف كذلك بهواجس طهران الإقليمية المشروعة، وتقديم تطمينات أمنيّة ذات مصداقية لها!
السياسية الخارجية التوسعيّة
عادةً ما تكون مثل هذه الدراسات معلّبة، أمّا هدفها فهو خدمة النتيجة المحدّدة سلفاً. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار انّ الرئيس التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية حالياً هو روب مالي، عندها سيسهل على القارئ فهم الهدف الذي يقف خلف التسويق لمثل هذا الطرح. سبق لروب مالي أن شغل منصباً رفيعاً في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وساهم من موقعه آنذاك كمستشار لشؤون الأمن القومي في التوصل الى الاتفاق النووي الذي اعتبره أوباما بمنزلة «إرث عظيم». ولذلك، ليس من الصدفة بمكان أن تبدو نتيجة التقرير منسجمة تماماً مع توجهات مالي الشخصية ودوره الرسمي السابق.
إذا ما انتقلنا الى مضمون التقرير، سنجد أنّه يتجاهل ما يمكن اعتباره مسلّمات أساسية في السياسية الخارجية التوسعيّة لنظام الملالي. تجاهل هذه المسلّمات أو إغفالها عمداً او سهواً يؤدي الى نتيجة مضلّلة. سبق لمؤيدي الاتفاق النووي الإيراني -ومنهم روب مالي بطبيعة الحال- أن جادلوا في سياق تبريرهم له بأنّ العقوبات التي فرضها أوباما كانت عاملاً حاسماً في دفع طهران الى طاولة المفاوضات وليس المكافآت التي قدّمها الرئيس الأميركي لها. هذه الحجّة لا تتّسق مع النتيجة التي يقدّمها تقرير مجموعة الازمات الآن التي يجادل من خلالها بأنّ العقوبات غير مفيدة وتؤدي الى نتائج عكسية، إذ لا يمكن للادّعاءين أن يكونا صحيحين في الوقت نفسه، وهذا يعني أنّ أحدهما غير صحيح بالضرورة.
وفي سياق دفاعهم عن الصفقة التي تمّ التوصل إليها مع نظام الملالي، شدّد داعمو الاتفاق النووي على أنّه لم يستند الى النوايا وانما الى آليات تحقق، وأنّه في الوقت الذي ستقوم به إيران بخرق الاتفاق، من الممكن إعادة العقوبات الى ما كانت عليه سابقا، وبالتالي إعادة الضغط الفعّال الذي كان قائما عليها. اذا كانت نتيجة تقرير مجموعة الازمات الآن صحيحة، فهذا يعني أنّ حجّة داعمي الاتفاق كانت خاطئة منذ البداية وأنّ ما اعتبروه ضمانة ضد خرق إيران للاتفاق لم يكن أكثر من مجرّد حبر على ورق.
التقرير يتجاهل انّ جل التمويل اللازم لعمليات إيران الخارجية وللنشاط المتعلق بتوسيع نفوذها الإقليمي لا يتم ادراجه في موازنات ولا يتم استقطاعه من موازنة الدولة الرسمية، وإنما يجري تمويله بشكل أساسي من قبل استقطاعات خاصة من الأموال التي يسيطر عليها المرشد الأعلى أو من الأموال التي يجنيها الحرس الثوري من إمبراطوريته. هذه الموارد الخاصة لا ترتبط بالضرورة بشكل كلّي بأداء الاقتصاد الإيراني الرسمي أو الشرعي، كما أنّ العلاقة بينها وبين الناتج المحلي الإجمالي لإيران ليست علاقة طردية بالضرورة.
في الحقيقة ثمة ما يشير الى أنّ جزءا من هذه الموارد التي يسيطر عليها الحرس الثوري أو يديرها تزدهر في ظروف معيّنة على حساب الاقتصاد الوطني، وغالبا ما يتم ذلك عندما يتعرض الأخير للمزيد من الضغوط، ولعلّ هذا ما يفسّر بدوره الادعاء القائل بأنّ العقوبات على الاقتصاد الايراني قد تؤدّي الى تعزيز النفوذ الايراني بدلا من كبحه.
الاتفاق النووي والنفوذ الإيراني
اذا ما أردنا تفسير النتيجة التي توصّل إليها تقرير مجموعة الازمات الدولية بطريقة مغايرة لما عرضه، بإمكاننا القول انّ معظم العقوبات التي تمّ تطبيقها ضد إيران خلال الـ٤٠ سنة الماضية لم تكن قوية بما فيه الكفاية، أو على الأرجح كانت تستهدف القطاعات الخاطئة التي لا يؤدي استهدافها الى التأثير على موارد الجهات التي تعمل على مد نفوذ إيران الخارجي. في مثل هذه الوضعية، فإن التوصية الصحيحة لا تكون بالامتناع عن فرض هذه العقوبات وإنما بتقويتها وجعلها أكثر تخصصا في استهداف موارد الحرس الثوري على وجه التحديد.
تقرير مجموعة الأزمات الدولية يتجاهل عمداً حقيقة انّ الاتفاق النووي مع إدارة أوباما واعفاء النظام الايراني من العقوبات أدى الى توسّع غير مسبوق في نفوذ إيران على الصعيد الإقليمي، توسّع لم يسبق ان شهدت المنطقة مثيلاً له منذ الدولة الصفوية. وفي هذا السياق، فإن التقرير يناقض نفسه أيضا حينما يقول ان الحل يكمن في «الاعتراف بمصالح إيران واعطائها ضمانات امنية»، اذ انّ جوهر الاتفاق النووي كان يدور حول هذه الأهداف بالتحديد. وبهذا المعنى، فإن التقرير يسوّق لنا وصفة تمّ اختبارها في السنوات الأخيرة وأثبتت فشلها بشكل ذريع.
وافقت إدارة أوباما آنذاك على الاعتراف بنفوذ إيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج العربي ومناطق أخرى، وفي الوقت الذي كان يتم فيه ادراج الميليشيات المسلّحة على قائمة الإرهاب كـ«داعش» و«القاعدة»، تم التغاضي كليا عن لجوء إيران الى الاستعانة بميليشيات طائفية مسلحة عابرة للحدود للدفاع عن مصالح الحرس الثوري في سوريا في مقابل موافقتها على الاتفاق النووي. ماذا كان رد فعل النظام الايراني على ذلك؟
لم يغيّر الاتفاق من سلوك النظام الايراني الإقليمي، ولم يحد من جهوده في التوسّع الخارجي، وإنما بخلاف ذلك أدّى الى تشجيعه على التوسّع في ظل شعورٍ طاغٍ بالحصانة والتهرب من المسؤولية ومن العقاب. كما استغل نظام الملالي مليارات الدولارات من الأموال المفرج عنها التي قدّمتها إدارة أوباما إليه، واستخدمها في نهاية المطاف في دعم الإرهاب وتوسيع نفوذ الحرس الثوري الإقليمي بدلاً من استخدامها في تحسين وضع المجتمع الإيراني وحالته الاقتصادية.
لقد أثبتت التجارب السابقة خلال أكثر من ثلاثة عقود أنّ مكافأة النظام الايراني على سلوكه السيئ لا يؤدي الاّ الى زيادة نفوذه الخارجي، وأنّ السياسة الصحيحة تقتضي معاقبته والحرص على التزام الجميع بالعقوبات المفروضة على مصادر تمويله لنشاطاته الخارجية المدمّرة، ودفعه للاعتراف بضحاياه واعطائهم ضمانات أمنية ذات مصداقية بعدم تعرّضه لهم بدلاً من أن يتم تقديم مثل هذه الضمانات الى الجانب الايراني!
وسوم: العدد 800