مُحاولاتُ الغرب لنَزْع أسنان الإسلام! (3-1)

يسود انطباع لدى عامة الغربيين أن الغرب غرب والشرق شرق وأنهما عالمان متمايزان منذ الأزل، وقد عبّر عن ذلك شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كيبلنغ(ت/ 1936) بقوله: "إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً".

ويعتقد صُنّاع الاستراتيحية الغربية أن الغرب والإسلام ضدّان لا يجتمعان، ويقررون أنهما عدوان لدودان وأن المعركة بينهما وجودية لا حدودية كما نرى في كتابات عديد من الأعلام الذين تبنّوا نظرية( صدام الحضارات) و(صراع الأفكار) و(مواجهات الأمم).

ويرى كثير من هؤلاء أن المنطقة الجامدة استراتيجياً في كوكب الأرض وفي ميزان إقامة النهضات الحضارية الكبرى هي منطقة البحر المتوسط، غير أنهم يجعلون جنوب البحر المتوسط (الوطن العربي وامتداداته الإسلامية) طرفاً نقيضا لشمال البحر المتوسط (أوروبا وامتداداتها الغربية)، حيث يرون أن شاطئي البحر المتوسط يُمثّلان كَفّتي الميزان، وأن كل قوة توضع في كفّة إنما تنعكس سلباً بالضرورة على الكفّة الأخرى وأن كل ثقل هنا لابد أن تقابله خِفّة هناك، ولهذا فإنهم يعملون على أن تظل كفّة الجنوب المسلم ضعيفة حتى تبقى كفّة الشمال المسيحي الليبرالي قوية، ويعملون جاهدين على أن تبقى كفّة العالم الإسلامي خفيفة في ميزان القيم الحضارية حتى يظل الثقل الحضاري حكرا على الغرب في هذا الزمن على الأقل، ومن هنا كانت المؤامرة أكبر من كل تصور ضد الربيع العربي، حيث كان في طريقه لإمداد الكَفّة العربية بقيم الحرية والديمقراطية والوحدة والسلام والأمن والعمل البناء !!

▪إن التيار الاستعماري في الغرب الامبريالي يعمل بصورة منهجية حثيثة حتى لا تعود الجولة للمسلمين وحتى لا يمتلكوا أسباب القوة المادية، فهم يعرفون أن الإسلام يمتلك قوة فكرية وروحية هائلة، تلك القوة التي جعلته في ذُرى الفاعلية في هذا الزمن، حتى أنه اجتذب أعدادا من العباقرة والأذكياء الغربيين إلى عالمه رغم أن المحسوببن عليه يقبعون في الدرك الأسفل من الضعف والتخلف، ويعرف هؤلاء أن الإسلام لا تنقصه سوى القوى المادية حتى يعود إلى سابق عهده وما سلف من مجده؛ ولذلك فإن صورا من القوة الإسلامية يتم تفكيكها على قدم وساق مثلما يتم نزع أسنان الإنسان، ويمكن اعتبار أهم الأسنان التي يحاول الغربيون اقتلاعها بكل ما أوتوا من قوة ومكر وخبرة ما يأتي:

▪ 1- سِنُّ الدولة:

يمتلك الغرب منظومة كاملة مُدجَّجة بكافة الأسلحة الفكرية والإعلامية والسياسية بل والعسكرية إن اقتضى الأمر؛ من أجل انتزاع قيمة الدولة الإسلامية من العقول والقلوب واقتلاعها من الجذور إن وجدت على الأرض . أ. على المستوى الفكري:

تُبذل على المستوى الفكري جهود ضخمة من قبل جهات استشراقية داخل جامعات ومراكز أبحاث ومعاهد متخصصة ومتسلحة بالأموال والوسائل كافة، ومن قبل تيارات وأحزاب من أبناء المسلمين أنفسهم من أجل عَلْمنَة الإسلام، وغرسه في أذهان الناس على أنه دين لاهوتي ينظم علاقة الإنسان مع الله ولا شأن له بالحكم والدولة ولا بقيم الخلافة وعمارة الأرض وصناعة الحياة، ويتم تأويل الآيات ذات الصلة بهذه القيم بصورة تجانب قواعد اللغة العربية الفصحى التي تنزّّل بها القرآن، وتخالف القواعد الثابتة والتي عُلمت من الإسلام بالضرورة، وتتجاهل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن اسْتَنّ بسنتهم في عصور السعادة والضياء، من بناء للحكومات الإسلامية وتطبيق لمبادئ الحكم الراشد في شؤون الحياة، إذ أن الوظيفة الأساسية للدولة هي ما عبّر عنها قوله تعالى: {الذين إن مَكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}، وإقامة الصلاة إنما هي رمز لإقامة حقوق الله والتي ستصبح بدورها الركن الركين والأساس المتين لمبنى حقوق الإنسان بمعناها العريض وعلى رأسها خدمة وصيانة الكليات الخمس التي لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنها أو التفريط بها، وهي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض. وإيتاء الزكاة هو رمز وقاعدة لحقوق الإنسان بمعانيها العريضة في محراب الحياة ضمن ما تسمى بشُعَب الإيمان التي تصل إلى نحو سبعين شُعبة.

فالصلاة تُجَسّد الإيمان الخالص والزكاة تُجسّد العمل الصالح، وبهما تنهض الأمم وتُبنى الحضارات، ولا فلاح في الإسلام بمعناه العريض بدون هذين الأمرين، ولذلك قال أبو بكر الصديق: (والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة ...) عندما أراد أصحاب الرّدّة الاجتماعية إقامة الصلاة دون إيتاء الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، واستنكر أبو بكر هذا الأمر وقال: (أوَ يُنتقَص الدين وأنا حي)؟!! فقد كان يعلم يقيناً أن عملية تنظيم المجتمع من صميم مقاصد هذا الدين العظيم.

▪إن جهودا جبارة تُبذل من أجل استئصال حلم الدولة من عقول المسلمين الذين افتقدوها منذ نحو قرن من الزمان ليعيشوا في عراء الضعف ويعانوا من صقيع الذل والفُرقة، وذلك عبر منظومة متكاملة من المنظمات والأنظمة والأجهزة والجمعيات والمبادرات التي تتلفع بأردية خادعة وتتخفى تحت شعارات ماكرة، ومنها: العمل المدني، وحقوق الإنسان، وتطوير الإسلام، وتقارب الأديان، وحوار الحضارات، وهذا لا يعني بالطبع أن كل جهد مبذول تحت هذه العناوين يسعى بالضرورة إلى علمنة الإسلام ولَبْرَنَة المسلمين، لكن الجزء الأكبر منه حسب استقرائنا للواقع يدخل تحت هذه المنظومة التي تحاول جعل الإسلام ديناً بلا دولة! ب - المستوى العملي:

وفي ذات السياق تُبذل جهود جبارة لإسقاط الحكومات التي تقترب من مضامين الإسلام بهذا القدر أو ذاك، ولو كانت شعاراتها غير إسلامية كما يحدث من تآمر ضد حكومة العدالة والتنمية في تركيا على سبيل المثال، وفي المقابل يتم التحالف سرا أو علناً مع النماذج التي تشوّه مفهوم الدولة في الإسلام، مثلما تم التحالف مع دول تقليدية تتمسّح بالإسلام وهي في الحقيقة تحاربه في كل ميدان وتسيئ إليه بكل صورة. وفي هذا الإطار جاء دعم الغرب لحركة طالبان حتى وصلت إلى الحكم في أفغانستان خلال مدة وجيزة، فقدّمت نموذجا مسيئاً لنظام الحكم الإسلامي، وعندما تَنبّه بعض قادتها للمشكلة التي وقعوا فيها وحاولوا القيام بمراجعات تُفضي إلى تقديم نموذج عصري للدولة الإسلامية، تناوشتها الحراب من كل جهة وشُنت عليها حرب دولية، وتم إسقاطها حتى تبقى الصورة المتخلفة عن الشريعة في أذهان الناس قائمة!

ولم يقنع الغرب الاستعماري وأذياله من منافقي العرب بذلك، بل تَمادَوا في هذا السياق حتى أوجدوا تنظيماً بشعاً سُمّي ويا للمكر الشديد ب(تنظيم الدولة الإسلامية)، وتمّ اختراقه بالآلاف من تنظيمات استخباراتية معادية للإسلام، وارتُكبت جرائم مروعة تلقفتها منظومة إعلامية مُدجّجة بالخبرات والتكنولوجيا، واجتهدت هذه المنظومة في أن تزرع في وعي الناس أن كل هذه البشاعة إنما هي الشريعة الإسلامية التي يريد الإسلاميون تطبيقها في مختلف بلدانهم، وتم خلق بعبع كبير يسمى الإرهاب، وصُنع هذا الرعب بطريقة احترافية بارعة ومُدّ بالأسلحة بطرق مخاتلة ليصبح مرادفاً للإسلام، واستُثمر هذا الأمر لتشويه سنّ أخرى من أسنان الإسلام وهي الجهاد!

▪ 2- الجهاد:

الجهاد هو السّن الثاني التي سعى ويسعى أباطرة الغرب لاقتلاعها من فم الإسلام حتى لا يستطيع عضّهم حينما يهاجمونه ويحاولون إبادة أبنائه، فقد ظل الجهاد قيمة إسلامية مقدسة في وعي المسلمين، فهو ذروة سنام الإسلام العظيم وشرف المسلمين الرفيع، وقد وقف هذا المبدأ حائط صَدّ دوماً ضد محاولات غزو المسلمين والسيطرة على بلدانهم والاستئثار بخيراتهم، منذ الفتوحات الإسلامية التي أزالت القوى الظالمة ومنعت فتنة الناس وتركتهم أحرارا ليختاروا ما يشاؤون من الأديان والمذاهب والأفكار والأنظمة السياسية، مرورا بالحروب الصليبية التي تصدى لها العلماء من داخل أروقة العلم كالأزهر الشريف والزيتونة والقرويين، ومن مساجد العبادة الإسلامية في كل مدينة وقرية، وذلك تحت شعار الجهاد والفداء والمرابطة حيث التضحية والشهادة التي يصطفي الله لها من يشاء من خلقه، ولذلك فقد ظل الجهاد شوكة في حلوق الطغيان وكان سببا في تحرير الأمة من أوزار الغزو وأقذار الهيمنة في كل وقت وحين، وصولاً إلى العصر الحديث حيث استحالت صيحات الجهاد إلى إعصار نجح في اقتلاع مشاريع الغزاة في سائر بلدان المسلمين التي تعرّضت للاقتسام بين الإمبرياليات الغربية ولا سيما بعد القضاء على الدولة العثمانية، حيث تم اقتسام تركة الرجل المريض وهو ما زال حياً وفق اتفاقية سايكس بيكو!

ويخاف الغزاة من الجهاد في زماننا الذي تجري فيه محاولات حثيثة لإعادة تقسيم بلدان المسلمين وفق أسس طائفية وعرقية ومذهبية جديدة، تقوم بتقسيم المُقسَّم وتَجزيئ المُجزّأ، بحيث يأخذ الاستعمار الجديد نصيب الأسد من الكعكة الإسلامية ويتم تقسيم البلدان إلى وحدات أصغر حتى يسهل بلعها وهضمها، وحتى يصعب عليها التحرر على المدى البعيد؛ نظراً لعدم امتلاك أي منها لمقومات الدولة الكاملة!

▪إن صُنّاع الأحلام والأمجاد الاستعمارية يرمزون للجهاد الإسلامي دوما بالسيف، وما فتئوا يرددون بأن المسلمين لا يمكن أن يمضوا في طريق التقدم والحضارة ما دام الإسلام شاهرا سيفه، وقد بذلوا جهودا جبارة ومكروا مَكرا كُبّاراً وقاموا بما لم يقم به الشيطان ذاته؛ من أجل أن يغرسوا سيف الإسلام في صدور المسلمين فيضربوا عدة عصافير بحجر واحد، وذلك من خلال تشجيع الفوضى الفكرية وتحويلها إلى فوضى سياسية خلّاقة تضمن تحقيق الأهداف الإبليسية لشياطين الغزو الاستعماري، ويتم ذلك من خلال وسائل كثيرة وأهمها القيام بتبني جماعات جهادية أو استثمارها بصور ماكرة تؤدي إلى تشويه مفهوم الجهاد واستثمار بأس تلك الجماعات في ضرب خصوم الغرب، عبر استفزازها وتهييجها كالثيران الأسبانية والدفع بها نحو الاصدام بأمتها أو نحو المَحارق، حيث سهّلوا طرائق الوصول إلى تلك المحارق لعشرات الآلاف من الشباب المعروفين باستعداداتهم للتضحية والفداء من سائر الدول وعلى رأسها الدول الغربية نفسها، والذين يعانون من اعتلال في الفهم واختلال في البوصلة الفكرية دفعتهم لارتكاب جرائم عظمى وهم يظنون أنهم يُحسنون صُنعاً، لكن أكثرهم وللإنصاف كانوا يملكون قلوباً جسورة وإرادات قوية ويحملون أحلاماً بريئة برؤية أمّتهم تحتل مكانة مرموقة تليق بإمكاناتها، ويظلون بالنسبة للغرب قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في وجهه ووجوه عملائه في أي مواجهة شاملة يمكن أن تندلع بين أمة الإسلام وأعدائها، ولذلك تم استئصال عشرات الآلاف من هؤلاء ووصم الإسلام ذاته بالإرهاب كما حدث في بلدان عديدة ولاسيما في سوريا والعراق واليمن وقبلها في أفغانستان.

سنواصل المشوار في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

وسوم: العدد 801