معايير تركيا في سوريا : سوريا للسوريين
لقد كان قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا – في الواقع – خطوة متسقة مع سياسة الرجل التي أعلنها منذ البداية. فالرئيس الأمريكي يتساءل منذ أيام حملته الانتخابية عما تفعله بلاده في سوريا أو الشرق الأوسط بوجه عام، وهو السؤال الذي كان أنصاره يعتبرونه منطقيا. بيد أنه لا يخفى على أحد أن تركيا هي التي أقنعته وجعلته يتخذ هذا القرار في هذا التوقيت بالتحديد، وهو اعترف به ترامب شخصيا.
كانت أنقرة تشدد منذ فترة طويلة على أبعاد الوجود أو النشاط الأمريكي في منبج التي تهددها بصفتها شريكة لواشنطن في حلف الناتو. ولقد انقطعت العلاقة خلال فترة قصيرة بين الحجج التي أعلنتها الولايات المتحدة ما إن وصلت إلى سوريا وما فعلته بعدما استقرت هناك. فالقوات الأمريكية جاءت إلى سوريا بسبب وجود مأساة إنسانية، بين أن أبعاد هذه المأساة زادت كثيرا بقدومها، بل إنها ساهمت في زيادتها.
كان الهدف المعلن هو حماية الشعب السوري من بطش نظام الأسد القاتل. بيد أنه ما إن وصلت القوات الأمريكية إلى سوريا حتى أعطت الأولوية لمكافحة تنظيم يسمى داعش الذي اتضح جليا أنه قدم مساهمات كبيرة للنظام.
وفي أحسن الاحتمالات فإن الولايات المتحدة بدأت المراوغة بواسطة داعش الذي أطلقت إلى الساحة أمام نظام الأسد الذي كانت قد جاءت إلى سوريا لإسقاطه. ولا ريب أن هذا السيناريو يضع واشنطن في موضع العنصر الفاعل الذي يكون في منتهى البراءة، لكن الوضع ليس بسيطا إلى هذه الدرجة. وإن عدم تأخر قوات نظام دمشق في الإعلان عن دخول منبج بعد انسحاب القوات الأمريكية منها يبرهن لنا مجددا على الأبعاد الخفية للعلاقة بين الجانبين. هذا فضلا عن أن نفهم أن المهمة الوحيدة الممكنة لعناصر ي ب ج – ب ي د، التي دربتهم وسلحتهم الولايات المتحدة ونشرتهم على حدودنا الجنوبية في منبج التي يشكل العرب كل سكانها، وذلك تحت عباءة مكافحة داعش، أن تلك المهمة هي تسليم تلك المنطقة إلى نظام دمشق. فلم يكن هناك أي داع ليبحث ب ج – ب ي د عن أي ملجأ يحتمون به بعد خروج القوات الأمريكية؛ إذ لم يواجه أي مشكلة مع النظام منذ بداية الأمر، فهو اتخذ مواضع استراتيجية للغاية ليصمد النظام بدلا من الوقوف بجانب الشعب السوري والتضامن معه.
لا شك أن وجود ب ج – ب ي د بمفرده ما كان ليكفي لحماية النظام في الأماكن التي كان يتواجد بها. ومن هذا المنطلق فكان الدعم الذي قدمته واشنطن لتنظيم ب ي د، بحجة مكافحة داعش، قد حل مكان الدعم المقدم إلى النظام. واليوم بعد انسحاب الولايات المتحدة يمكننا أن نشاهد "حفلات رقص" ينظمها النظام وب ي د سواء في منبج أو سائر المدن السورية الأخرى. ونحن الآن نشاهد مرحلة رفع الأعلام وإنزالها، وهي إحدى مراحل هذا الرقص.
والحقيقة التي لا تخفى على أحد أن تركيا استطاعت أن تشرح بشكل مقنع بواسطة دباباتها التي أرسلتها إلى حدودها مع سوريا جديتها التي حاولت شرحها كثيرا من خلال المباحثات الدبلوماسية أو اتفاق شراء منظومة صواريخ إس-400 من روسيا أو حتى مباحثات سوتشي وأستانة. فقد أكدت للجميع أنها لن تقف موقف المتفرج أمام ما يحدث في سوريا، مذكِّرة بما فعلته في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون.
واليوم يعيد الجميع ترتيب أوراقه ومواقفه وفق هذا التحرك. وبطبيعة الحال لا يمكن أن نتوقع أن يستسلم أحد للرؤية الجديدة التي أماطت تركيا اللثام عنها. وبغض النظر عن كون أنقرة هي التي قامت بهذه الحملة الواضحة، فإن الجميع سيحاول خلال المرحلة المقبلة إما حماية مكاسبه أو إفشال ما تقوم به تركيا.
وفي هذا السياق يعتبر دخول قوات النظام منبج ورفعها العلم هناك حالة يمكن فهمها. لكن يمكننا كذلك أن ندرك أن هذا التطور لا يتمتع بأي تفسير أو واقعية. فالسبب الذي كان يمنع نظام الأسد من دخول منبج في الماضي لم يكن وجود عناصر ب ي د أو القوات الأمريكية، بل لأنه صار عاجزا عن إدارة تلك المنطقة. والآن نفهم أن وجود ب ي د والولايات المتحدة هناك كان بالوكالة عنه. لكن لا يمكن مواصلة هذه الوضعية بعد اليوم. فنظام دمشق لن يستطيع إدارة هذه المنطقة كذلك بإمكانياته الذاتية كما هو الحال بالنسبة للعديد من مناطق سوريا، ذلك أن سكان منبج يرفضون الأسد الذي لا شك أن تركه بمفرده معهم يعتبر أمر في غاية الخطورة، ذلك أن الجميع رأى على مدار السنوات الثماني الماضية ماذا يمكن لهذا النظام أن يفعله بشعبه.
إن الخط الذي تسير عليه تركيا منذ البداية واضح. فأنقرة لا تطمع في أراضي السورية، بل إنه لا تحمل أي غاية سوى تمهيد الأوضاع في سوريا لعودة نحو 8 ملايين لاجئ يعيشون في الخارج، نصفهم يعيشون في تركيا. فالرئيس أردوغان لا يتوانى حتى في لحظة كهذه عن إعلان هذا الهدف.
كانت أهم نقطة اتفقت بشأنها كل الأطراف سواء في سوتشي أو أستانة هي أن سوريا ملك للسوريين. وإن الإصرار على هذه النقطة يضمن لتركيا قوة الحق أكثر من أي طرف آخر. فأنقرة تؤيد بشدة انسحاب كل العناصر الأجنبية من سوريا وضمان وحدة الأراضي السورية وصياغة دستور جديد يرعى مصالح كل الأعراق والتيارات من عرب وأكراد وتركمان وأرمن وعلويين وسنة ومسيحيين.
لا تسمح قوة أو موقع أي دولة باستثناء تركيا بتنفيذ هذه الصيغة التي لا يستطيع أحد الاعتراض عليها. ذلك أن تركيا صارت هي الدولة الوحيدة القادرة على حماية حيادها بين عناصر المعادلة السورية مقارنة بسائر الدول الأخرى، كما أنها هي الدولة الوحيدة التي تنتهج سياسة إنسانية قائمة في الأساس على حقوق الإنسان. فموقعها هذا يمكّنها من أن تكون هي مفتاح الحل في سوريا. ولهذا فإنه لا شك أنها ستكون في مركز كل التطورات التي ستشهدها سوريا خلال الأيام القليلة المقبلة.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الجامعة العربية لم تقدم أي مساهمة لحل الأزمة الإنسانية في سوريا منذ بدايتها، بل إنها عملت على تعميق هذه الأزمة. وها هي اليوم تقدم على خطوات تضفي الصبغة الشرعية على نظام الأسد في هذه الأيام التي تشهد تطورات إيجابية بشأن الوصول إلى حل. وهو ما يجعلنا نتابع هذا الوضع عن كثب.
إن إقدام الإمارات ومصر والبحرين على إعادة فتح أبواب سفاراتها في دمشق بعد 7 سنوات من الإغلاق لهو خطوات للعبة جديدة يحاول البعض الترتيب لها. فهي خطوات تشبه سكب الماء على الحساء الناضج. ويا له من أمر مؤلم أن يشعر المرء بالضيق لدى سماعه هذه التطورات التي لا يمكن تفسيرها بالخير.
وسوم: العدد 805