الإمارات إذ تعيد فتح سفارتها!
قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، سافرَ أحد الصحفيين العرب للعمل بوظيفة مدير تحرير لإحدى الصحف الإماراتية الخاصة، ويذكر هذا الصحفي أنّ صاحب الصحيفة قال له في أول لقاء:
ثلاثة أشياء لا تقتربها: إسرائيل، فهناك مستشار للشيخ منهم، وبريطانيا، فهي من أسست هذه الدولة، ولها موظفون على مستوى عالٍ في الدولة، وأمريكا، فهي من تحمي الدولة ونظامها!
ويضيف أنّه بعد أنْ فهمَ الخطوط الحمر، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأراد أن يصنعَ سبقًا صحفيًا، وذلك بطلب أسماء المغادرين على إحدى الطائرات التي تحطمت في ذلك العمل "الإرهابي" لكي يتحقق من ورود أسماء العرب المتهمين بذلك ومنهم إمارتيون، وهنا كانت الكارثة إذ أبلغه صاحب الصحيفة أنّ عبد الله بن زايد وزير الإعلام آنذاك قد طلبه، واكتفى بطرد الصحفي "حالاً" من الإمارات، وهذا أقصى ما يستطيع تقديمه له فقد "حماه" من مصيبة أكبر!
يكاد يكون النموذج الإماراتي متفردًا في كل شيء، فالإمارات التي ظهرت للوجود كدولة عام 1971، وعُدت شكلاً ناجحًا "لنواة" وحدة عربية، لم يشبه هذا النموذج العرب بشيء إلاّ أنّها أقيمت على أرضٍ عربية، فهي يمكن أن تكون الإمارات الهندية لأن الهنود هم الأغلبية، وكذلك يمكن أن تكون الإمارات الإيرانية، فالإيرانيون هم الفئة الثانية من حيث الكثافة السكانية، والفئة الأولى من حيث السيطرة الاقتصادية، ويمكن أن تكون إنكليزية لأن اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية، وإن ادّعى دستور البلاد أّنّ العربية هي الرسمية، ويمكن أن تكون أمريكية، فهي محمية أمريكية بكل معنى الكلمة، وربما تكون صينية أو روسية، أو خليطًا مما ذكرنا بنسب متفاوتة، ويبقى العرب هم القلّة بين هؤلاء، ومن هذه القلّة ثمة انقسام مذهبي "سني، شيعي" انقسام لا يسمح بأي شكل من الأشكال لأن يكون أصحاب الأرض هم أصحاب الدولة، وهذا يستدعي تساند أسر حاكمة ارتبطت تاريخيًا بغزاة المنطقة!
رغم كل ما ذكرنا، إلاّ أنّه يُحسب لمؤسس الدولة "الشيخ زايد" أنّه بنى دولة رأى فيها العرب أنموذجًا في التطور والحداثة، دولة باتت جاذبة للاستثمارات والسياحة وسوقًا للمال والأعمال، وقد جاءت حرب أكتوبر لتعطي دفعة شعبية كبيرة له حين قطع إمدادات النفط، وهذا ما شكّل في الذاكرة الجمعية العربية موقفًا يحسب له، كما أنّه ظل حتى وفاته ضد الخلافات العربية، وكذلك قدّم دعمًا للفلسطينين، أعمالٌ قد يُقال عنها إنّها كانت تساير تلك المرحلة، وهذا قد يكون صحيحًا، ولكن هذه أعمال سُجلت له، وسجل عليه أيضًا إغراق سوق النفط العالمية في عام 1990، وهذا ما أدّى لغزو الكويت من قبل العراق بعد اتهام العراق للكويت والإمارات بإغراق سوق النفط العالمية وتخفيض سعر برميل النفط بغية ضرب الاقتصاد العراقي بعد الحرب الطويلة مع إيران!
في الثورات العربية، لم تخف الإمارات تخوّفها من امتداد الربيع العربي إليها، وهنا كانت بين موقفين، حيث بدت في زخم التصاعد الثوري العربي أنّها مع حق الشعوب في التغيير، وموقف آخر مغاير لما تدعيه، وهو التحضير مع بقية الأنظمة العربية التي لم تصلها الثورة للانقضاض على الثورات العربية، وهذا الموقف هو الموقف الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية التي تفاجأت بثورات الربيع العربي، وهذه الثورات تهدد البناء الرسمي العربي أو نهاية ما صنعه الغرب في المنطقة عبر مئة عام، وهذا يؤدي لصعود إسلامي بدءًا من المنطقة العربية وهذا يعني نظامًا عالميًا جديدًا يختلف عن النظام القائم المانع لأي نهوض إسلامي!
ما أنّ أسقطت الثورات بعض الرؤوس ولم تسقط الأنظمة , حتى سارعت الإمارات للتدخل في شؤون تلك البلاد و إقامة علاقات مع مراكز القوى " الدولة العميقة" في بلاد الثورات , ولعل الحالة المصرية خير مثال على ذلك , وقد تمّ ذلك بتعاون مع السعودية , وأنظمة أخرى ربما عُرفت فيما بعد شعبيًا بـ " أنظمة الرز" وهي الأنظمة التي رعت الثورات المضادة وسحق الشعوب الثائرة , وإغراق البلاد التي لم تتمكن من إعادة شعوبها لبيت الطاعة بالدمار والتهجير !
يذكر الرئيس التونسي السابق "المنصف المرزوقي" أنّ الإمارات أقامت غرفة تدير من خلالها الثورات المضادة في المنطقة، وأن محاولة الانقلاب على أردوغان كانت جزءًا من عمليات هذه الغرفة!
ولو أردنا أن نفكك كلام الرئيس التونسي السابق – وهو نتاج ثورة تونس- لوجدنا أنّ الدور الإماراتي السلبي الذي أخذ يتصاعد مع الثورات العربية كان داعمًا للأنظمة أو داعمًا للفوضى أو العمل على إفقاربلاد الثورات وشيطنة الأنظمة التي أتت بها الثورات، وقد برز اسم "محمد دحلان" رئيس الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة، والذي كان مشرفًا على تعذيب الإسلاميين وتصفية عدد منهم، والتعامل مع الإسرائيليين والتنسيق معهم، وتصفية المقاومين، برز هذا الشخص كأحد المكلفين بالتعاون مع الثورات المضادة والقضاء على الثورات العربية وتحويل بلاد الثورات إلى فوضى!
صنعت الإمارات لمحمد دحلان امبراطورية إعلامية، وفي الواجهة منها قناة الغد العربي، وقد كانت مهمة دحلان وأذرعه الإعلامية تتلخص في مهمتين الأولى: اختراق الثورات العربية والوصول إلى قادة الحراك الثوري في بلاد الثورات، والثانية: تشويه الثورات العربية بوصفها دمارًا للبلاد العربية، ومؤامرة لتفتيت العالم العربي، كل هذا إلى جانب المشاركة بالأعمال القذرة وتصفية المناوئين، وقد أشارت أصابع الاتهام لضلوع دحلان في عملية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي!
عملت الإمارات بعد الربيع العربي بشكل واضح على إنهاء الحالة الثورية العربية، وهذه السياسة لا يمكن أن تكون من تلقاء نفسها بل هو الدور المنوط بها، وقد عملت على عدة محاور منها: شيطنة الإسلام السياسي وفي القلب منه الإخوان، دعم الثورات المضادة، العمل على إنتاج وصناعة إسلام جديد تحت مسمى التجديد الديني، العمل على إسقاط حزب العدالة والتنمية في تركيا، ودعم الانقلاب وجماعة فتح الله غولن، فضلاً عن ضرب الاقتصاد التركي بشراء عدة بنوك داخل تركية ما أدى لانهيار الليرة التركية، كذلك دعم تنظيم البككا، وتقديم السلاح له تحت مسمى "قوات سورية الديمقراطية".
وفي الثورة السورية فقد سارعت الإمارات إلى احتضان شخصيات مهمة من النظام، وكذلك استقطاب المليارات من الأموال السورية المنهوبة من قبل آل الأسد ومخلوف وشاليش، لتكون مركز غسيل أموال وتمويل للحرب القذرة ضد الشعب السوري، وقد عمدت في بداية الثورة إلى طرد عدة أسر سورية مقيمة في الإمارات لأنّ أبناءها أبدوا تعاطفًا مع ثورة بلدهم، وقد رحّل العشرات إلى مصر، في وقت قدّمت فيه الإمارات والسعودية دعمًا ماليًا للنظام بعيد انطلاقة الثورة السورية بقليل على شكل قروض ميسرة وادعتا أنّ ذلك قد تم الاتفاق عليه قبل الثورة!
كان عمل الإمارات في الثورة السورية يقوم على ثلاثة أمور: الأول، تشتيت العمل الثوري وعدم السماح للقوى الثورية في الاندماج في جسم واحد عسكري وسياسي، والأمر الثاني، العمل على عدم انهيار النظام بل إطالة مأساة الشعب السوري حتى يصبح عبرةً للشعوب العربية وفي القلب منها "الخليجية" والأمر الثالث، أن الثورة في سورية اختطفت من قبل القاعدة والجماعات الإرهابية، ولا بدّ من حرب على تلك الجماعات المتشددة!
قبيل تشكيل الحلف الدولي لمقاتلة "داعش" عمدت الإمارات إلى دعوة شخصيات ومشايخ من المنطقة الشرقية والجزيرة في سورية، وكان ذلك في أواخر 2013، وقد صرفت بسخاء على الحضور وقدّمت لكل زائر ثلاثين ألف دولار عدا عن الهدايا، وقد طلبت منهم طلبًا واضحًا ومحددًا: قتال الجماعات المتشددة، وترك مقاتلة النظام! أمرٌ فسّر في حينه على أنّه صناعة صحوات عشائرية على غرار ما تمّ قبل سنوات في العراق، وقد قدمت لهم إقامات ومرتبات شهرية، مع عدم السماح لهم بالعمل السياسي ضد النظام، وقد ذكر العميد نبيل الدندل وهو من ضباط الأمن المنشقين ومن الذين تمت دعوتهم للإمارات: أن الإمارات أرادت منا أن نبقى نعيش فيها مقابل عدم العمل على إسقاط النظام، وهذا ما دعا قسمًا من الموجودين لمغادرتها إلى تركيا، ومنهم من فضّل اللجوء لأوروبا!
موّلت الإمارات إلى جانب السعودية ودول عربية أخرى ما يسمى الحلف الدولي لمحاربة الإرهاب، وقد ارتكبت مجاز رهيبة بحق قاطني المنطقة الشرقية في سورية والمناطق التي كانت تسيطر عليها داعش، وبعد تدمير تلك المنطقة فضلاً عن تدمير مدن السُنة في العراق، فقد أفرغت من سكانها، ما أفسح المجال لقوات النظام وحلفه الطائفي بالتقدم والتموضع فيها، وكذلك تقدمت قوات البككا الانفصالية المتخفية تحت مسمى سورية الديمقراطية لتقتطع نحو ثلث سورية، واتضح أنّ هذا الحلف جاء نصرةً للنظام وحلفائه، وتدميرًا لمدن السُنة حيث الكتلة الصلبة التي كانت تهدد وجود النظام الطائفي، فتم تدمير وتهجير أهلها بذريعة داعش، والتي تشير كثير من الدلائل على أنّ داعش إحدى مفرزات غرفة الثورات المضادة التي يديرها دحلان!
لم تكتفِ حكومة الإمارات بهذا الدور القذر تجاه الثورة السورية بل دعمت القوة الإيرانية في المنطقة، وعملت على إنهاء كل العقبات أمامها، وهي تدّعي عداء معها، فمن حيث الاقتصاد فالإمارات الشريك الأول لإيران، ومركز مهم لغسيل الأموال والالتفاف على العقوبات الدولية، وقد عاقبت الإمارات ومعها السعودية كل الأنظمة التي عملت على مساندة الثورة السورية أو الثورات العربية، فقد دعمت الانقلاب في تركيا كما ذكرنا، وساهمت بحرب الليرة التركية ودعم قوات قسد الإرهابية، لتجد تركيا نفسها في تحالف مرّ مع إيران وروسيا، ما أدى لإضعاف الثورة السورية، كذلك تمّ حصار قطر بذريعة تعاون قطر مع إيران، ما دفع بقطر للانفتاح على إيران، وهذا أدى لتخفيف الضغط الإعلامي على النظام وحلفائه، وفتح مسارب مالية واقتصادية لإيران المنهكة اقتصاديًا بسبب مقاتلة الثورة السورية!
إن إعادة فتح السفارة الإماراتية في دمشق يأتي ضمن هدفين:
الأول: إشارة لانتهاء الثورة، ومباركة للنظام القاتل وحلفه الطائفي لا سيما وأن الإمارات هي والسعودية من مولتا الحرب الروسية ضد الثورة السورية، بعد أن بات واضحًا أن عام 2015 هو نهاية الحكم الطائفي ومن معه في سورية.
الثاني: هو الفصل التالي من الحرب على تركيا، حيث يُعاد تأهيل النظام في سورية على المستوى العربي، وأن الضوء الأخضر الأمريكي لتركيا باجتياح مناطق قسد ما هو إلا فخ يراد منه رأس تركيا، في سيناريو مشابه لفخ الكويت 1990 الذي أدى لتدمير العراق بوصفه دولة غازية لدولة ذات سيادة!
إن المتتبع لدور الإمارات في حرب الثورات العربية لن يستغرب الخطوة الإماراتية في إعادة فتح السفارة في دمشق، فالإمارات أبقت سفارة النظام تعمل على أراضيها طوال تلك السنوات، حيث شكلّت مصدرًا مهما لجلب الأموال من خلال إجبار السوريين على مراجعتها لتمديد جوازات سفرهم أو تصديق وثائقهم الرسمية، كذلك اتسق هذا الدور مع دور الإمارات في دعم الثورات المضادة، واحتضان ابن علي عبد الله صالح، ودعم حفتر، وقبل ذلك كسر الربيع العربي من خلال الانقلاب الدموي في مصر!
وسوم: العدد 805