البابا والتسامح الإماراتي... لَقْطَة لها خلفيتها
في رائعة والت ديزني «الأسد الملك»، دبّر «سكار» بمعاونة الضباع حادث اغتيال لأخيه زعيم مملكة أرض العزة، ثم جعل يُبشّر بعهد جديد من السلام، تتعايش فيه الأسود والضباع في أمان، بينما يتجاهل رعيته التي لم تر التسامح في قاموسه..
تلك اللقطة التي أخذها الأسد الجائر هي ما يهمه، وهي بعينها ما ينشده كل متكبرٍ جبّار، مهما كانت تخفي وراءها واقعًا مُغايِرًا مُجانِبًا للحقيقة، فنحن في عالم تُغتال فيه الحقائق عمدًا مع سبق الإصرار.
في لقطة جديدة تحمل معها كل استحقاقات السخرية، نظّمت دولة الإمارات عن طريق ما يسمى «مجلس الحكماء المسلمين»، «لقاء الأخوة الإنسانية»، استضافت فيه بابا الفاتيكان ضمن ما أطلقت عليه «عام التسامح» لدعم القيم الإنسانية والتعايش بين أصحاب الأديان، وبحضور المئات من الشخصيات التي تمثل 12 ديانة وطائفة من مختلف أنحاء العالم.
كان بوسعي التصفيق للحدث، فمن يكره التعايش والحوار بين أهل الأديان؟ لكن اللقطة التي أخذتها الإمارات كانت جدّ خادعة مُفرّغة من المحتوى الواقعي.
أستعير قول الأعرابي الذي سُئل كيف عرفت ربك؟ فأجاب: «الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟» هذا هو المنطق، كل موجود له ما يدل عليه، فما الذي يدل على التسامح الإماراتي غير هذه الدعاية باسم الدين؟ ألا يخبرهم أحدٌ أن الأقربين أولى بالمعروف؟ ألا يخبرهم أحدٌ أن العالم أصبح كقرية صغيرة، وأن الدول تتابع ملفَّهم الحقوقي وترى التناقض بين دعوى التسامح مع الأديان والاستبداد الذي تمارسه الإمارات داخل وخارج حدودها في المنطقة؟
كلامكم عن التسامح مقبول، لو كنتم تتسامحون مع شعبكم وتحترمون حرية الفكر والتعبير عن الرأي. لكن يبرز أمام أعيننا أمثال أسامة الناجر الذي حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وتغريم نصف مليون درهم، فقط لأنه كتب تغريدة يدافع بها عن والده المحكوم عليه بعشر سنوات في قضية الإماراتيين الـ94، بعد أن لُفِّقتْ له تهمة الإضرار بسمعة مؤسسات الإمارات والتواصل مع جهات خارجية لتقديم معلومات مضللة. وتبرز أمامنا ثلاث شقيقات للمعتقل عيسى السويدي المتهم في القضية نفسها، تعرضن لسوء المعاملة والتعذيب وعُزِلن عن العالم الخارجي، بسبب تغريدة كتبتها إحداهن «اشتقت لأخي».
وثائق مسربة كشفت توقيع النظام الإماراتي عقدا مع مؤسسة «لوبي»، بهدف الترويج لسياسات الإمارات، واتهام قطر بدعم الإرهاب
يتحدثون عن التسامح والسجون قد امتلأت بالمعارضين، سواءً من الإسلاميين من حزب الإصلاح، أو من الليبراليين الذين ينشدون نظامًا ملكيًا دستوريًا، أو من فرادى المدافعين عن حقوق الإنسان، والتهم واحدة: المساس بالوحدة الوطنية، التخريب، نشر أخبار كاذبة.
الكاتب بنيامين بارت في صحيفة «لوموند» الفرنسية بعد أن عدّد مساوئ الملف الحقوقي للإمارات، وتطويرها إمبراطورية للمراقبة والقرصنة الإلكترونية للتحكم في أنشطة خصومها، عقّب على زيارة البابا قائلًا: «دولة الإمارات التي زارها البابا فرانشيسكو مؤخرًا، تظهر اهتمامًا كبيرًا بالتعايش بين الأديان، لكن قمع المعارضة السياسية فيها بلا رحمة».
يتحدث القادة الإماراتيون عن التسامح وهم الذين أدرجوا 80 منظمة إسلامية حول العالم على قائمة الإرهاب منها جمعيات خيرية إسلامية بارزة ومنظمات مجتمع مدني، كمنظمة كير الأمريكية وعدد من الروابط الإسلامية في أوروبا. كيف نقبل حديثهم عن التسامح وهم من افتعل الأزمة الخليجية مع قطر، وشكّلوا مع جيرانهم طوقًا لمحاصرة ذلك الشعب الذي تربطهم به علاقات الدين والدم والمصاهرة والعروبة، بهدف الضغط على القطريين وسلْبهم حقهم السيادي؟ كيف يتكلمون عن التسامح وقد مولوا انقلابًا على إرادة الشعب المصري، ولعبوا دورًا مشبوهًا في انقلاب تركيا الفاشل، ودورًا على إثره لضرب الاقتصاد التركي؟ ألم يكن من الأولى أن تسعى الإمارات تحت مظلة التسامح للحوار مع التيار الإسلامي وجماعات الإسلام السياسي التي تناصبها الإمارات العداء، وتلاحقها داخل وخارج حدودها؟ ألم يكن الأولى أن يدفعها ذلك التسامح للحفاظ على وحدة اليمن والكف عن العمل على فصل الجنوب لتحقيق أجندتها الخاصة؟ بل ألم يكن من الأولى تحت مظلة التعايش الإنساني أن تسعى لتحسين الأوضاع المعيشية في اليمن، التي أصبحت كارثية بمعنى الكلمة؟
لو كانت دعوة الإمارات إلى التسامح حقيقية لكفّت عن تسييس الأموال لخدمة طموحات ابن زايد، وهنا يطالعنا تقرير سابق لـ»ميل أون صنداي» تناول وثائق مسربة كشفت توقيع النظام الإماراتي عقدا بقيمة 60 ألف إسترليني شهريًا مع مؤسسة «لوبي» تسمى كويلار كونسلتانتس، بهدف الترويج لسياسات الإمارات، واتهام قطر بدعم الإرهاب.
لكن هذه اللقطة التي أخذتها الإمارات لها ما وراءها، فالحكاية وما فيها أن الإمارات تسعى منذ قفز محمد بن زايد على السلطة إلى أن تكون عاصمة دينية، تسحب البساط من تحت كل من السعودية التي تأثر التديّن فيها بالسلفية أو ما أطلقوا عليه الوهابية، وقطر التي تأثر التدين بها نوعًا ما بتيار الإسلام السياسي ورموز الإخوان، فاتجهت لأنْ تُكوِّن شبكة من الإسلام المعتدل، وفق مفهوم الاعتدال الذي حددته المراكز البحثية الأمريكية، التي تخدم صانع القرار أبرزها مؤسسة راند، والذي تراه ممثلًا في التدين الصوفي.
فمنذ 11 سبتمبر/أيلول تعالت أصوات الباحثين الأمريكيين منادين بإحياء ودعم التصوف منهم برنارد لويس ودانييل بايبس، لملء الساحة وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وقد حثّ الباحث الأمريكي ستيفن شوارتز المسؤولين في أمريكا على تعلّم المزيد عن الصوفية، والتعامل مع شيوخها والتعرف على ميولها، ودعا أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية لأن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية.
وفي 2002، دعت مؤسسة راند في دراسة لها إلى تأسيس تحالف إستراتيجي مع الصوفية لمواجهة التطرف الديني في العالم الإسلامي، تلاه مؤتمر عقدته مؤسسة نيكسون لاستكشاف دور الصوفية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
فجرى بعدها حشد الصوفية ورموزها لمواجهة تيار الإسلام السياسي، وما يعرف بالوهابيين، وكان نظام محمد بن زايد هو الذي تولى اعتماد هذا النموذج الأمريكي بصفته الوكيل الأول للعولمة في المنطقة. لقد عوّلت أمريكا وحلفاؤها على التصوف القبوري المغالي كفكر انسحابي، يمكن من خلاله تمييع الدين وتطويعه للبرامج والأهداف الأمريكية تحت مظلة التعايش الإنساني، ومن ثم أنشأت أبو ظبي مؤسسة طابة التي يرأسها الصوفي علي الجفري، والتي تتماهى في مبادئها تماما مع التوجهات الأمريكية تحت شعارات استيعاب التنوع الثقافي والحضاري الإنساني. كما رعت الإمارات وكوّنت مجلس حكماء المسلمين الذي يتزعمه شيخ الأزهر وآخرون من رموز التصوف، مع استبعاد كامل لغير المنتمين لهذا التيار، وهذا هو المجلس الذي أرادت به أبو ظبي منافسة التيار الديني السلفي بالسعودية خاصة، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أيّد ثورات الربيع ودعّم الإسلام السياسي.
ربما يكون هذا الإيجاز قد أوضح للقارئ نوعًا ما، ما وراء هذه اللقطة التي أخذتها الإمارات في التسامح المزعوم، إذ أنها بالنموذج الإسلامي المُعتمد لديها تُنصّب نفسها نائبًا عن الأمة في التعايش الإنساني (المُزيّف) مع الآخر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 811