هل من تجديد لحركات التجديد؟!
جماعات (التبليغ والإخوان والسلف والصوفية والتحرير وغيرها) مدعوة اليوم، بل وفي كل يوم؛ إلى مراجعة أفكارها وهياكلها وأنشطتها وبرامجها على ضوء نصوص الشريعة أولاً، ثم على ضوء المستجدات والواقع وما فيه من تحديات وفرص، وإلا فإن الذي لا يتجدد يتبدد، لاسيما وأن سنة الاستبدال الرباني في المتخلفين عن غاية الوجود، والمتأخرين عن احتياجات البشرية ومتطلبات العصر لا تحابي أحداً، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) (محمد: 38).
ولعل من مبررات ودواعي التجديد لهذه الأفكار كذلك:
- أن دين الله الذي جاءت هذه الحركات والتيارات بقصد خدمته ونشره ونصرته يتجدد ليبقى صالحا لكل زمان ومكان، فكيف لا تتجدد تلك الاجتهادات البشرية، لاسيما وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بمجدد للدين يبعثه الله على رأس كل مائة عام؟!
- أن خصوم الإسلام ووكلاءهم في بلاد المسلمين قد بلغوا من الخبث والمكر مبلغا عظيما جعل لديهم القدرة على فهم واحتواء واختراق تلك الحركات، بل ومحاكاتها في نُسَخ شبيهة بها، أو شق صفها وتفكيكها وتفتيتها.
- أننا نؤمن بأن الاجتماع والتحزب ليس مقصوداً لذاته بل يتبع حكمه لحكم غايته؛ فالتجمع على الخير خير والتجمع على الشر شر، والتجمع الذي فقد دوره ومفعوله صار مرهقا مكلفا لأصحابه ومن حولهم، وإثمه بالتالي أكبر من نفعه.
- أن كل ما حولنا تعرض للتغيير والتحوير، وقد أتى على تلك الحركات التكلس والجمود، وأصبح روتينها متعبا حتى لأصحابها والمنتسبين لها، مما جعل بعضهم يفكر في تركها أو الانشقاق عنها، ولم يعد لها بريق جاذب للمنتسبين الجدد، لاسيما وأن الشعوب خرجت عن صمتها وأخذت تطالب بالتغيير لأنظمتها، في حالة من التمرد على كل قديم.
- أن دخولنا إلى عالم التكنولوجيا وقنوات الإعلام وأدوات الاتصال والتواصل أضعف كثيرا من الوسائل القديمة التقليدية لتلك الحركات، ولم يعد من الحكمة البقاء على ما كان، واعتبارها من الثوابت؛ فالثوابت هي الرؤى والغايات، وليست الوسائل والهياكل والبرامج والنشاطات، ومعلوم أنه لا يجوز تثبيت المتغيرات، مثلما أنه لا يجوز تغيير الثوابت، ولك أن تنظر في مسار السيرة النبوية لترى كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يثبت على الثوابت (ومنها موضوع الدعوة: وربك فكبر)، ويغير المتغيرات (من دعوة سرية إلى علنية، ومن سلمية إلى ثورية، ومن فردية إلى جماعية، ومن دعوة إلى دولة، ..).
- لقد أصبح حال تلك الجماعات والتيارات كحال طفل صار شاباً وهو لا يزال يصرّ على ارتداء ثياب الطفولة، مما جعل سوءاتها تظهر من كل مكان، فهي تخشى من انكشاف وبرد تلك اللحظة التي تخلع فيها ثوب الطفولة لتلبس ثياب الشباب، ولا تفكر في سنوات الدفء والجمال التي ستحل بها بعد ذاك.
من استراتيجيات وجوانب التجديد المطلوبة
- تجديد طرق وأساليب وخطط الوصول للغايات النبيلة.
- تجديد هياكل وأنظمة وقوانين تلك الحركات، وأسس اختيار الأعضاء الجدد والأنصار والقيادات، ومعرفة آفاق الاستفادة من الخبرات المتراكمة فيها.
- البحث عن مصادر تمويل طاهرة ومتجددة، تناسب حجم نشاط وانتشار تلك الحركات، بعيدا عن المغشوش من المال الحرام.
- تجديد مناهج وبرامج تلك الحركات، سواء ما يستهدف أفرادها، أو ما يستهدف أبناء الأمة بشكل عام.
- تجديد أساليب وادوات الفلترة والتنقية المستدامة، وتمكين أدوات الحماية والحذر لكل اختراق فكري أو أمني يمكن أن يعبث فيها ويحرفها عن مسارها.
- تجديد العلاقة بالمحيط (جماعات وتيارات وشخصيات ونخب أو أنظمة محلية وعالمية) بما يراعي المحافظة على الثوابت، مع شيء من المرونة في المتغيرات على ضوء الفرص والتحديات (صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة نموذجا).
- تجديد التعامل مع العمق الاستراتيجي الكامن في كل جماعة وحركة، من خلال تفعيله ليحقق الحد المعقول من الهيبة المطلوبة لتلك الحركة أو الجماعة، ولعل هذا العمق يتمثل في أفرادها المحافظين على فكرتها، بحيث يتم تشغيلهم ضمن خطة توظيف تطوعي تجعل كل فرد عبارة عن مؤسسة أو برنامج أو مشروع بحد ذاته.
- منح الفروع أو الشُعب أو الأقسام المنتمية لكل حركة وجماعة لا مركزية العمل والأداء، لتتحرك كل وحدة دعوية بما يتناسب وحاجات وتطلعات المجتمع الذي تسكن فيه، دون أي تأثير من المركز العام لهذه الجماعات والتيارات، إلا فيما يمس الثوابت المشتركة بينها.
- تجديدٌ يمنح تلك الجماعات والتيارات عناصر مفاجأة وأدوات ضغط نوعية، تجعلها رقما صعبا مستعصيا يحسب الآخرون حسابها ولا تقبل الزوال أو الذوبان والانحراف.
- وحتى يتحقق التجديد الفعال لابد من قراءة تجارب الأنبياء والدعوات، وإمعان النظر في السيرة النبوية وما حصل أثناءها من تطوير وتجديد، والاستفادة من تجارب الحركات والجماعات الأخرى، ومد جسور التنسيق والتعامل في المشتركات من الأمور معها، وترك الاعتداد بالذات، والتجرد للغاية والهدف، وسؤال الله العون وحسن استخارته في كل باب من أبواب التجديد.
وفي الختام:
نحن بحاجة ماسة إلى ترك الجمود والذهاب بكل جرأة إلى التجديد في حركات التجديد، ولن يكون ذلك طالما أننا نقدس الوسائل ونتحزب للهياكل والشخصيات.
ولست من الذين ينادون بإغلاق أو حل تلك الجماعات والتيارات، لأنني أعتقد بأنها أصبحت ثروة ومكتسبا ورصيدا هاما للمجتمع المسلم، فضلا عن تاريخها الحافل بالتضحيات والانجازات، إلا من انحرف منها عن الجادة، وذهب بعيداً في عالم البدع أو التطرف أو التمييع، أو التحفَ بلحاف أنظمة الطغيان والاستبداد وصار يشرعن وجودها وفجورها، فهذه الجماعات والتيارات لا ينفع معها التجديد بقدر ما تحتاج إلى ثورة عارمة وانقلاب وتغيير.
وسوم: العدد 814