هل الجحود مكافأة للعباقرة ؟
خلال تكريمي في حفل التكريم وختام فعاليات يوم الثقافة الوطنية في قطاع غزة، والذي عقد في 28 آذار/ مارس 2019، وأشرفت عليه وزارة الثقافة الفلسطينية، والاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين، بالتعاون مع جمعية الشبان المسيحية بغزة، مرت أمامي أطياف أدباء وكتّاب وشعراء وغيرهم ممن خاضوا التجربة، ورفدوا الثقافة الوطنية بأعمالهم الخالدة، منهم مَن انتقل إلى جوار ربه، ومنهم مَن ظل على قيد الحياة من أمثال: هارون هاشم رشيد، وزهير الريس، وإميل حبيبي، ومحمد البطراوي، وعمر خليل عمر، وخميس أبو شعبان، ومحمد حامد الجدي، وفريد أحمد أبو وردة، والشيخ عبد الكريم الكحلوت، وأحمد دحبور، وناصر الدين النشاشيبي، وغيرهم، فأثار ذكراهم شجوني، واستحضرت مواقفهم المميزة في حفظ التراث الفلسطيني، فكتبت هذا المقال:
حياة العباقرة شعلة دائبة الضوء بوقود لا يفتر واشتعال لا ينعدم، وكفاح فكري منقطع النظير، ويستمد الآخرون من معينهم الذي لا ينضب بإنتاج عبقري دائم التجدد في سبيل وطنهم، وما أن يمضوا في زمرة المشيعين إلى القبر، حتى تنطوي صفحتهم، وسرعان ما تبدد شمس العبقرية سحب النسيان والجحود، ولا يبقى من سيرتهم سوى ذكريات عابرة تمر على الشفاه، وأحاديث تدور على الألسن، تزداد بعض الشيء كلما حلت ذكرى وفاتهم، فهذا صحفي يحييهم في بضعة أسطر، وهذا كاتب يخصهم بمقال يطول أو يقصر.
لكن، هل سيبقى وعي مجتمعنا الشرقي في ركود يجحد العبقري وينساه بمجرد موته؟ ولكن الحقيقة تجتاز هذا الطرح بكثير، فالعباقرة والمبدعون لا يموتون أبداً، حيث تتفاوت النظرة والرؤية في تقرير الأمر، فمنهم من يرى أن العبقري بعد موته يظل مهضوم الحق والتقدير، منسياً حتى من وطنه الذي عاش وجاهد من أجله، ومات في سبيله مع أهل نشأ بينهم، وعاش فيهم ولهم، وبادلهم الحب وعاطفة القربى، وجيران عاشرهم، وأصدقاء عرفهم، وزملاء عمل معهم.
وجاء في مقولة قديمة كانت - منذ عهد غير بعيد – وأصبحت مضرب الأمثال لدى عامة الناس وهي: (إن البلاد التي يُشَجّعُ فيها سباقُ الخيل، ولا يُشجع فيها الأديب لهي أجدر بلاد الله بالرحمة والرثاء).
ويرى عبد الرحمن الكواكبي أن: (الأديب في الشرق يموت حياً ويحيا ميتاً، بينما الأدباء في حياتهم يكونون أفقر الفقراء، فإذا هم بعد الموت يصيرون - بالرثاء وحفلات التأبين - أغنى الأغنياء)!!.
يحدث هذا في الدول المتأخرة بينما تعمد الدول المتحضرة في تقدير مبدعيها إلى إقامة التماثيل لهم، وتسمية أهم الشوارع والميادين بأسمائهم، وضرب اسمهم على النقود، وإصدار صورهم على طوابع بريدها المتداول.
ويروى أن أحد رؤساء الجمهورية السابقين في لبنان لم ينتظر أمير الشعراء "أحمد شوقي"، حتى يأتي إليه، بل ذهب لزيارته في فندقه، وكان شوقي يوم ذاك يزور بيروت، وعندما استغرب أمير الشعراء – هذه البادرة – قال له رئيس الجمهورية: (بعد قرن أو قرنين يَنسى الناس اسمي، أما اسم أحمد شوقي، فسيظل خالداً).
ومن الشواهد التي ساقها "وليم جيمس" قوله: (إن أعمق حاجات الطبيعة البشرية هي حاجتها إلى التقدير)، ليدخل عباقرتها باب التاريخ، ويكتب اسمهم الخلود على الزمن.
وهؤلاء العباقرة ضحوا، لأنهم حملوا الرسالة طول حياتهم وكانوا نبتاً من صميم الشعب، نما حتى صار كالشجرة العالية، أصلها ثابت وفرعها في السماء، كانوا يملأون الدنيا بأعمالهم، فإذا ما ماتوا انطفأ ذكرهم، حيث يتعرضون للجحود والنسيان وعدم تقدير.
يقول شوقي في هذا المعنى:
بالعلم ساد الناسُ في عصرهم واخترقوا السّبعَ الطباقَ الشداد
أيطلب المجد ويبغي العلا قومٌ لسوق العلم فيهم كساد؟
ما أصعب الفعل لمن رامه وأسهل القول على من أراد !
واليوم، نرى العالم يحتفل بمناسبات عديدة في أوقات محددة من العام كعيد الأم، وعيد الحب .. إلخ، فلماذا لا يكون هناك يوم لإحياء ذكرى أديب أو شاعر أو شيخ أو فنان قدم شيئاً مميزاً للمجتمع؟ وإنه اقتراح أرجو أن يجد آذاناً صاغية لتنفيذه، حتى لو كان التكريم في حياته، وليس بعد موته كما يعتقد البعض.
وسوم: العدد 818