ضد الكيزان أم ضد حكم العسكر؟!

إنه اليسار إذ ركب الثورة، وقد ركب الثورة السودانية، فاندفع بها إلى محاولة إنتاج حكم عسكري عضوض، لأن اليسار ـ في عالمنا العربي ـ لا يستطيع العيش إلا في كنف الاستبداد، وفي ظل الأنظمة الشمولية، التي تضعه “في الصورة”، وتجود عليه بفتات السلطة وبقايا طعام الولائم!

إذا كان انقلاب البشير إسلامياً، فقد عرف السودان انقلاب الضباط اليساريين، بل ويتردد أن الانقلاب الإسلامي كأن لقطع الطريق على انقلاب يساري جديد!

في البداية، أجد نفسي مضطراً لسحب وصف سابق لتجمع المهنيين في السودان، إذ وصفته بأنه “ضمير الثورة”، ومن ثم اعتبرته ولكونه تجمعاً مهنياً وليس سياسياً، هو الأجدر بإدارة المرحلة الانتقالية، تكون مهمته إجراء انتخابات نزيهة، تعيد المسار السياسي الذي بدأ في السودان قبل ثلاثين سنة، وقبل وقوع الانقلاب العسكري، الذي أفرز حكما مستبداً، هو حكم الرجل الواحد، وإن اتسعت رقعة السلطة لتشمل أبناء قادة الأحزاب التاريخية، كما تنوعت النخبة العسكرية لينال شخص مثل “عبد الفتاح البرهان” نصيبه من الحضور والرفعة، والذي يقال إنه ليس منتمياً للفكر الاسلامي، ولا يُعرف له توجه سياسي حتى كتابة هذه السطور، والجيش السوداني لم يكن أبداً بعيداً عن الانتماء السياسي كما الجيش المصري. ولا تنسى أنه إذا كان انقلاب البشير إسلامياً، فقد عرف السودان انقلاب الضباط اليساريين، بل ويتردد أن الانقلاب الإسلامي كان لقطع الطريق على انقلاب يساري جديد!

الطراطير والمطايا لقد أكبرت إصرار تجمع المهنيين، على عودة الجيش لثكناته، وبأن تدار المرحلة الانتقالية من قبل المدنيين، وليس بواسطة العسكريين، وهو واحد من المطالب المهمة للثورة، وذلك بعد البيان الأول لـ”عوض بن عوف”، لكن هذا المطلب تغير بعد تنحي “عوف” لصالح زميله الفريق أول “عبد الفتاح البرهان”، وتم التحايل على هذا المطلب ليصبح المطلوب هو حكومة مدنية انتقالية، مع وجود مجلس عسكري حاكم، وهي تجربة مررنا فيها في مصر، فإذا بأعضاء الحكومة هم مجموعة من “الطراطير” و”المطايا”، وإذ بهم مجرد سكرتارية عند أعضاء المجلس العسكري، لدرجة أن رئيس الحكومة عصام شرف، كان يتقدم باستقالته عند أي حراك ثوري ضده، ليضع الاستقالة تحت تصرف المجلس العسكري، ثم ينتظر، فإذا قيل له إنها لم تُقبل لم يصر عليها ويواصل عمله بشكل طبيعي، وكأنه أسير حرب لدى المجلس العسكري!

لقد أضحك تجمع المهنيين الثكالى، عندما وجدنا أن فترة العامين طويلة، ولا مبرر لها، إلا إذا كانت النية تتجه ليعيد النظام الانقلابي خلالها نفسه، فإذا بتجمع المدنيين يضع مطلباً مثيراً وهو أن تمتد الفترة الانتقالية لأربع سنوات، إلى حين تهيئة المناخ لنقل السلطة إلى الشعب، لكن هذا الطلب كان بعد تنحي “عوض بن عوف” وتنصيب “عبد الفتاح البرهان” حاكماً عسكرياً، ومن حسن الحظ أنه لم يستمع لهذا المطلب المريب، فقد أعلن أن الفترة الانتقالية لن تزيد أيضا على السنتين!

وهذا الموقف الفاضح، دفعني لأن أسأل عن التوجه السياسي لتجمع المهنيين؟ فقيل لي إنهم يساريون على بعثيين، عندئذ أدركت أننا أمام واحدة من العقبات التي تمنع التحول الديمقراطي في بلاد الربيع العربي، ومن مصر إلى تونس، فهي أزمة النخبة العاجزة عن الوصول للجماهير، وكلما سمعت عن الانتخابات تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى، إنها تكره لقاء الشعب فكره الشعب لقاءها، لأنها في الأصل نخبة معزولة عن الشعوب لا تتكلم لغتها، وتزدري الناخبين، ومن هنا كانت الأزمة المصرية!

دعك من قصة الاستمرار الثوري للوصول لمرحلة حكم الثورة، فلم نكن نملك هذا الترف في مصر، وكان غاية من شكلوا ائتلافات الوجاهة الاجتماعية، هو التقاط الصور لهم مع أحد أعضاء المجلس العسكري، ولم يكن عندهم بديل آخر، بل فشلت الثورة في اختيار أسماء لإدارة السلطة، عندما كان الهتاف بسقوط حكم العسكر، قالوا: حمدين صباحي، فرد في التو واللحظة وعلى الهواء مباشرة في برنامج “العاشرة مساء” بأن أحداً لم يفاتحه في هذا وأنه يرفض، فارتج على الشباب!

تجمع المدنيين وضع مطلباً مثيراً وهو أن تمتد الفترة الانتقالية لأربع سنوات، إلكن هذا الطلب كان بعد تنحي “عوض بن عوف” وتنصيب “عبد الفتاح البرهان” حاكماً عسكرياً

وكان الجميع يدركون أنه لابديل عن الانتخابات، لكن القوى المعروفة لهذا الانتقال الديمقراطي، طالبت بتأجيلها إلى حين استعداد الأحزاب الجديدة لها، ولم يسألهم أحد: وما البديل؟ هل في أن يستمر حكم المجلس العسكري؟!

منذ البداية دعوت شباب الثورة، إلى ما أسميته تثوير الدوائر الانتخابية، استعداداً للانتخابات، لكن كانوا في حالة استسلام بأن الناس تريدها إسلامية صرفة. ولم يكن هذا صحيحاً بدليل أن القوى غير الإسلامية حصلت في انتخابات البرلمان على حوالي 40 في المائة من المقاعد، ثم إن المرشح الناصري كان ترتيبه الثالث في الجولة الأولى، وإن مرشح الدولة القديمة تأهل للإعادة في الجولة الثانية، وإن المرشح الإسلامي نجح على “الحركرك”، أو على الحافة، لكنه الخوف من لقاء الجماهير، ولأن كثيرا من الشباب الذي نفخ المجلس العسكري فيه ليصنع منه منافساً للتيار الإسلامي، لم يكن يمتلك أي حضور جماهيري، وإن تم فرضه عسكرياً على وسائل الإعلام، باعتباره ممثل الثورة وصاحبها!

وعندما قال القوم إن الفترة غير كافية لأحزابهم الجديدة، كان ردي: فلننتقل لجدول الأعمال لنقل السيادة إلى الشعب، وهناك دورة كاملة تستعد فيها الأحزاب للجولة الجديدة إن كان مقرراً أن تكون الجولة الأولى من نصيب الإسلاميين!

وقد أحدث خيار الشعب سواء في مصر أو في تونس أزمة عند قوى الكفاح الفاشل، فدخلت على خط إفشال المسار الديمقراطي، ولأن هذه القوى لا تمثل بديلاً، فقد كان في موقفهم مبرر لعودة الدولة القديمة، فمن يقول إن تونس بعد الثورة يحكمها القايد السبسي ومن يقول إن مصر بعد أن هتف ثوارها بسقوط حكم العسكر يكون البديل هو عبد الفتاح السيسي؟!

لا يمكن أبداً أن تكون الثورة السودانية على الحكم الانقلابي يسارية، وإلا كان المطلب هو النزول بالفترة الانتقالية لستة شهور مثلاً

لنكتشف أن المعوقات التي تمنع من التحول الديمقراطي هي ثلاث قوى: الإسلاميون، والعسكر، واليسار أو النخبة في مجملها!

الإسلاميون ولثقتهم في قدراتهم على الفوز والتفاف الناس حولهم، فيبدو كما لو أنهم كانوا مع التوجه الديمقراطي وحق الشعب في الاختيار باعتباره صاحب السيادة، والعسكر بطبيعتهم أعداء للديمقراطية، فموقفهم منها واضح كشر لا بد من إسقاطه، لكن تظل مشكلة اليسار بصورة أبرز في تونس والسودان، والنخبة كما في مصر واليسار من مكوناتها!

ركوب الثورة السودانية

لا يمكن أبداً أن تكون الثورة السودانية على الحكم الانقلابي يسارية، وإلا كان المطلب هو النزول بالفترة الانتقالية لستة شهور مثلاً، تكون فيها مهمة الإدارة الحالية من بند واحد هي إجراء الانتخابات، فمن خرجوا للشوارع هم بالملايين، لكن اليسار يعلم أنه بلا وجود حقيقي في الشارع، لذا فقد تعلق في أستار الاستبداد العسكري، فتكون المشكلة في الضابط عمر البشير، والضابط بن عوف، لكنها ليست مع استمرار الضابط “عبد الفتاح البرهان” لأربع سنوات، ولمدى الحياة، فهذا هو الضمانة الوحيدة لوجودهم في السلطة، كما حدث في مصر، وصار الناصريان كمال أبو عيطة وحسام عيسي وزيرين باختيار الانقلاب العسكري، لكن هذا كان في البداية، فعندما اشتد عود الانقلاب أعادهما إلى بيوتهما، ففي أي حكم في الدنيا يمكن أن يكون فيه “أبو عيطة” وزيراً إلا إذا كان انقلاباً عسكرياً في بدايته حيث مرحلة تضليل الجماهير!

البشير وإن كان ينتمي للحركة الإسلامية، فإنه الصديق المقرب من العدو الأول لهذه الحركة الآن في مصر، وهو شخص عبد الفتاح السيسي،

لقد قاد تجمع المهنيين (القلة الأكثر تنظيما والأكثر خبرة في صك الشعارات) حركة الثورة في الهتاف ضد الكيزان، وعندما تم استبدال “بن عوف” بالبشير، كان الرد بأنه “كوز” بديل لـ”كوز” وأن الثورة ضد “الكيزان”، فهل الثورة ضد “الكيزان” أم ضد حكم العسكر؟!

من سوء حظ الحركة الإسلامية في السودان، أنها صاحبة الانقلاب العسكري الحاكم، لكن أيضاً اليسار ليس بريئاً من الانقلابات العسكرية، فهو صاحب سوابق في ذلك، ومن سوء حظ الحركة الإسلامية، أن القطاع المهم الذي خرج على البشير لم يصمد بعيداً، لأنه عندما طال عليه الأمد باع بالرخيص، وقد استعان به البشير (الخائن للترابي مرشده الروحي)، وقدموا أسوأ تجربة في الحكم، لكن ليسوا هم وحدهم الذين طال عليهم العمر فلبوا نداء البشير مقصرين ومحلقين، فكثير من الأحزاب التاريخية فعلت ذلك، وهو الحكم الذي احتوى معارضيه لإضعاف حركة الشارع، فليس غريباً أن يكون نجل الصادق المهدي من مستشاريه، ولم يكن غريباً أن نقرأ أن جماعة الختمية يفكرون في فك الارتباط بحكم البشير بعد سقوطه، فأضحكوا الثكالى، لسرعتهم الفائقة في إدراك أن النظام انتهى ومن ثم فإنهم يفكرون في الخروج من حلفه!

ومع هذا كله، فليس كل الإسلاميين مع البشير، وليس كل اليسار خارج نطاق حكمه الذي اتسعت رقعته، وفرض سيطرته لدرجة أنه لم يمانع في عودة النميري إلى السودان من قبل، أو في عودة الصادق المهدي إلى بلاده بعد أن منعته السلطات المصرية من دخول مصر مجاملة للحكم العسكري في السودان!

والحال كذلك فإنه يكون من العبث أن يكون الهتاف الغالب هو رفض حكم “الكيزان”، وليس الحكم العسكري، فبمجرد أن يتنحى “الفريق أول عوض”، لصالح “الفريق أول عبد الفتاح” يتنفس يسار الخيبة الصعداء، ويطالب ببقاء حكم العسكر لأربع سنوات أخرى، فهل كانت المشكلة في تصنيف الحكومة في عهد البشير وقد كانت حكومة مدنية، أم أن المشكلة في نسق الحكم، وقد كان عسكريا وهو مستمر إلى الآن عسكرياً، فلو كانت الحكومات المدنية يمكنها الحكم مع وجود العسكر، لكانت تجربة المجلس العسكري نجحت في مصر!

أحدث خيار الشعب سواء في مصر أو في تونس أزمة عند قوى الكفاح الفاشل، فدخلت على خط إفشال المسار الديمقراطي

عندما سألت الزملاء السودانيين عن المقصود باصطلاح “الكيزان” قالوا: إنه يعود إلى الإسلاميين؛ ذلك بأنه روي عن الترابي قوله إن الإسلام بحر ونحن كيزانه. وهناك من يقول إنها عبارة نقلها الترابي عن الشيخ حسن البنا المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين!

نحن في الصعيد نعرف “الكوز”، وبعض الناس في الوجه البحري في مصر يعرفونه أيضاً، فـ”الكوز” هو ذلك الإناء التقليدي الذي يُستخدم في شرب الماء، ويكون غالباً من الألمونيوم!

ومهما يكن، فالمقصود بـ “الكيزان” هم التيار الإسلامي، فهل يعقل أن تكون الثورة ضد حكمهم فقط وليست ضد حكم العسكر بشكل عام!

الروح الاستئصالية إن البشير وإن كان ينتمي للحركة الإسلامية، فإنه الصديق المقرب من العدو الأول لهذه الحركة الآن في مصر، وهو شخص عبد الفتاح السيسي، لأن ما يجمع بينهما هو العقيدة العسكرية، وهي عقيدة جامعة لا تحتاج لتوجه إضافي، فيكفي اعتناقها في الحكم ليكون الافراز حكماً عضوضاً فاسداً يجمع من حوله، طبقاً لهذه المواصفات، من هم مثل “عبد الفتاح البرهان”، الذي أُعلن اسمه في مصر كرئيس للحكم العسكري الجديد وفي الساعات الأولى للانقلاب وحتى بعد إلقاء “عوض بن عوف” بيانه!

لقد كان هناك من الإسلاميين المؤيدين للترابي من يتحسبون لهذه الروح الاستئصالية، عندما كنت أسألهم عن السر وراء وقوفهم مع حاكم عسكري مستبد، أوقع بالسودان ضرراً كبيراً، وأنكر أستاذه وشيخه، وسجن حتى الإسلاميين، وكانوا يتحدثون عن النار التي هي تحت الرماد والتي تنتظر سقوط البشير، للانقضاض على التيار الإسلامي بشكل عام، وكنت أظنهم يبالغون!

ولا يفوتنا التذكير هنا، بأن أول مسمار دُق في نعش البشير منحازاً لثورة الشارع كان بيان مرشد الإخوان المسلمين الشيخ علي جاويش، وكان البيان آخر أعماله من الدنيا، بعدها مات الرجل!

إن الثورة في السودان خرجت على حكم عسكري فاسد ومستبد، وهتفت بسقوط حكم العسكر، لكن اليسار عندما ركبها أخذها لمنحى آخر، فلا يجد لديه مانعا في إعادة إنتاج الحكم العسكري على قواعد أخرى، ويكون كريماً معه فيمنحه رغبة بأن يستمر في الحكم لأربع سنوات وليس فقط لسنتين كما قرر!

إن الثورات إن افتقدت القدرة على الحكم فإنها تحيل السيادة للشعب لاختيار من يحكمونه، وحتى إذا حكمت فإنها تحكم استناداً لهذا التأييد الشعبي الذي تعبر عنه المظاهرات، قبل الانتقال إلى صناديق الاقتراع، ومن غير هذا فإن اليسار السوداني ممثلا في جبهة المهنيين يكون قد ساهم في إحباط الثورة، ومكن لانقلاب على الانقلاب، ولحكم عسكري على أنقاض حكم عسكري، ولفئة عسكرية داخل منظومة الحكم على حساب فئة أخرى فهل “محمد حمدان دقلو” مثلاً هو مطلب ثوري، وهل هو خارج رحم النظام المعزول؟!

وإذا كانت الثورة غير مستعدة لاستلام السلطة أو ترى الشعب ليس مستعدا للاستلام حالا، فلماذا لم يكن ضغطها على البشير للوصول إلى انتخابات نزيهة بنهاية ولايته؟ وقد أرجأ خطوة تعديل الدستور، والواقع أنه عدل عنها، ليستعد الشعب لعودة السيادة إليه، وكفى الله المؤمنين انتظار البيان العسكري الأول، والبيان العسكري الثاني؟!

لقد قامت الثورة لإسقاط حكم العسكر، وعودة الحق للشعب في اخيتار حكامه، وعندما ينحرف تجمع المهنيين بها عن هذا المطلب، فإننا نكون أمام واحدة من الجرائم التي يرتكبها اليساريون في حق الربيع العربي، عندما يكونون عونا للاستبداد والانقلابات، لأنهم لا حضور لهم عندما تشرق شمس الديمقراطية، وقد اعتادوا في عالمنا العربي على الأكل على موائد المستبدين، عندما يفرغ السادة من طعامهم ويتركون ما تبقى منه للخدم!

لكن ـ للدقة ـ فإن الخدم لا يأكلون في حجرة السفرة، فهم ينقلون بقايا الطعام إلى المطبخ!

إن تجريس تجمع المهنيين ضرورة ثورية.

وسوم: العدد 820