وسائل التواصل الاجتماعي مخدر العصر

من المقولات المتداولة  خصوصا في مجتمعاتنا العربية أن لعبة كرة القدم مخدر  لا يختلف عن باقي المخدرات لما تحدثه من هوس لدى عشاقها يصرفهم عن شؤونهم وواجباتهم ، ومسؤولياتهم الدينية والدنيوية مع أن في عقيدتنا الإسلامية لا ينفك الدين عن الدنيا لأنه عبارة عن خوض غمارها وفق إرادة الخالق عز وجل . وتنطبق تلك المقولة اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي التي انتشر هوسها بين الناس انتشار النار في الهشيم ،وذلك على أوسع نطاق في المعمور . وما يعنينا من هوسها هو ما أصاب الإنسان العربي تحديدا لأن الإحصائيات الدولية كشفت عن هذا الهوس من خلال أعداد الذين يتعاطون هذه الوسائل في الوطن العربي .

ولقد أصبح ارتباط الإنسان العربي بهذه الوسائل ارتباط إدمان غير مسبوق تماما كإدمان مخدر من المخدرات التي يصير مدمنها مسلوب الإرادة لا يستطيع التحرر من تعاطيها .

ومعضلة تعاطي هذه الوسائل يكمن في طرق توظيفها ،لأن كل شيء في الحياة يكون الأصل فيه المنفعة ، والاستثناء هو المضرة ، والذي يتحكم في النفع والضرر هو الإنسان المخلوق المستخلف في الأرض ليحافظ على صلاحها الذي تترتب عنه المنافع ، ولا يعيث فيها فسادا تترتب عنه مضّار .

وعندما نتأمل توظيف الإنسان  العربي لوسائل التواصل الاجتماعي نكتشف مدى خطورتها عليه حيث تستهلك منه أولا وقتا ثمينا ومعتبرا  بإمكانه أن يستغله فيما يعود عليه بالنفع  في عاجله وآجله وعاقبة أمره حيث أصبح مدمنا عليها منكبا عليها في كل وقت وحين لا يغادرها إلا ليعود إليها  بسرعة من جديد، فضلا عن كونه يوظفها أسوأ توظيف يظهر من خلال اهتماماته التي يعبر عنها عبر تبادل الرسائل بينه وبين من يتواصل معهم، ذلك أن الغالب عليها أنها لا تعدو في مجملها أن تكون هزلا وعبثا وسخرية وقذفا ،  فضلا عن تعاطيه الأراجيف والأخبار الملفقة والكاذبة التي تنال من سمعة  وكرامة الناس ومن أعراضهم . ولا يكاد أحد ينشر عبثا سخيفا حتى يشيع في الناس شيوع النار في الهشيم ، فيعطى أهمية كبرى ، ويصير في حكم الجد . والسر في كل هذا الاهتمام الذي يحظى به هذا العبث هو طبيعة عقلية الذين يتعاطونه وصدق الشاعر المتنبي إذ يقول :

ومن المؤسف جدا أن تنتقل عدوى تعاطي العبث في وسائل التواصل من عوام الناس  وسوقتهم وحتى سفهائهم إلى العقلاء من ذوي المستويات الثقافية العالية ، فينساقون معهم في عبثهم ، ويتبادلونه ملتمسين في التفكه  والتندر ، وقد يقعون ضحايا الأراجيف والأكاذيب المغرضة، فيرسلونها إلى معارفهم ممن هم في مستوياتهم الثقافية على أساس أنها حقائق ذات وثوقية ومصداقية، الشيء الذي يحسب عليهم، ويمس بمصداقيتهم لدى معارفهم ، ويحط عندهم  من أقدارهم .

ومن سوء توظيف وسائل التواصل الاجتماعي أن يتساوى فيها الجد بالعبث ، ذلك أنه مباشرة بعد تبادل التحية الصباحية أو المسائية ، وسرد بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو أقوال بعض العلماء والمفكرين أو بعض  حكم  الحكماء ،وكل هذا جدّ ،يأتي العبث بكل أشكاله بل تسوق أيضا المشاهد الساقطة الخادشة للحياء ، وبهذا يصير كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكلام العلماء والحكماء في نفس المرتبة مع الهزل،  والكذب، والقذف، والفحش ، وساقط الكلام .

ولقد بلغ الإدمان على تعاطي ما لا طائلة من ورائه ولا فائدة ترجى منه في العاجل والآجل عبر وسائل التواصل درجة  غير مسبوقة تدعو إلى القلق الشديد ، ذلك أن الإنسان العربي شغلته تلك الوسائل حتى عن نفسه  و عن أقرب الناس إليه، وجعلته يعيش معزولا عن محيطه لأنه يتعاطها مسافرا، ومقيما، وراكبا، وراجلا ، وقائما، وقاعدا ،وعلى جنبه ، وفي منشطه ومكرهه حتى أني ذهلت ذات يوم لأمر بعض حفظة كتاب الله عز وجل، وقد دعوا إلى حضور وليمة لتلاوة ما تيسر من الذكر الحكيم ، فكانوا بعد الانتهاء من قراءة بعض الآيات وإنشاد بعض المدائح  ينصرف كل واحد منهم إلى هاتفه الخلوي انصراف مدمن دون أن يشعر بوخز ضمير مما يخرم مروءته ،وهو من هو عند الناس توقيرا واحتراما  . وإذا كان هذا شأن إدمان تعاطي وسائل التواصل الاجتماعي عند حافظ كتاب الله عز وجل وهو في  جلوة، فكيف يكون حاله وهو في خلوة ، وكيف يكون غيره ممن لا قرآن يحفظ ولا مديح ينشد ؟

ومما يدعو إلى القلق  الشديد أيضا أن الإدمان على تلك الوسائل يجعل البعض لا يرعى حرمة لبيوت الله عز وجل ، فيشهر فيها جهازه الخلوي لا لتلاوة القرآن الكريم  أو استعراض علم بل لاستعرض ما وصله من رسائل بما فيها العابثة والماجنة ،وهو في وضعية المرابط الذي ينتظر إقامة  فريضة الصلاة .

ومن آفات وسائل التواصل الاجتماعي انتهاك حرمات الناس ، وتصويرهم دون علم منه  أوهم غافلون لاتخاذهم مواضيع  للسخرية للتندر،وينشر ذلك على أوسع نطاق على حساب كرامتهم ، مما يسبب لهم معاناتهم  حين يطلعون على ما نشر عنه مما يسوءهم.

ومن آفاتها أيضا تحريف أقوال الناس وإعمال المقص فيها وإخراجها من سياقها واستغلالها في سياقات أخرى للنيل من أصحابها خصوصا العلماء والدعاة . ومما شاع تبادله عبر وسائل التواصل فيديوهات لبعض المحسوبين على الدعوة ممن يخلطون الهزل بالدين من أجل إضحاك الناس، فيتندر بهم هؤلاء، ويصيرون أضحوكة  عندهم .

ولا يقولن أحد إن في هذه الوسائل منافع للناس لأن موضوعنا  هذا لا يتناول منافعها بل مضارها ، ولو اقتصر الناس على منافعها لما كان لهذا الموضوع من فائدة ، وإنها في منافعها لفي حكم الخمر والميسر ذلك أن إثمها حين يساء استعمالها أكبر من نفعها .

وخلاصة القول  أن الإنسان العربي ابتلي بآفة التواصل العابث ، وأقبل عليه بشكل كبير إلى حد الإدمان ، وهو ما لا يرجى له علاج إلا أن يتدارك الله عز وجل من ابتلي بهذه الآفة .

وسوم: العدد 822