إسرائيل وعقدة غزة .. تجريب المجرب
يشعر الإسرائيليون ساسة وقادة عسكريين ، وإعلاميين ، وجمهورا بالإحباط والمرارة من جولة قتال اليومين الأخيرة ، ويتقاذفون اللوم ، ويقدمون الاقتراحات لحل عقدة غزة الأمنية العصية على الحل . وكل اقتراحاتهم لا جديد ولا حاسم فيها . إنهم يدورون حول ذاتهم ، ويصرون على تجريب المجرب ، أي المزيد من العدوان على غزة ، والمزيد من خنقها ، وإن كان بعضهم يدعو إلى الكف عن الخنق بتعليل أنه ليس أمام من تحاول خنقه إلا أن يصارعك ولو بآخر نفس في صدره . ونشعر بأن قوة الإحباط لدى الإسرائيليين قد تدفعهم إلى عدوان جديد عنيف على غزة ، نقرأ أنهم يريدون منه تخصيصا تدمير سلاح المقاومة ، الصواريخ بالذات ، الذي فاجأهم في الجولة الأخيرة بتطوره النوعي من حيث الدقة . ويرى الإسرائيليون أن البيئة السياسية المتمزقة والمتحاربة في العالم العربي تلائم كثيرا عدوانهم على غزة ، ومن تجليات هذه البيئة فوق التمزق والتحارب البيني والداخلي حماسة ولهفة أكثر الدول العربية للتطبيع والتحالف مع إسرائيل . وفي كل عدوانات إسرائيل السابقة على غزة لقيت تأييدا ودعما من عدة دول عربية ، وإلحاحا بإطالة الحرب حتى القضاء نهائيا على حماس . وعدوان جديد عنيف على غزة يراه عرابو صفقة القرن تهيئة ملائمة لإنجاح هذه الصفقة التي تستهدف تصفية كل أساسيات القضية الفلسطينية ، وفتح الباب إلى شرعية وجود كاملة لإسرائيل في المنطقة . المتآمرون على غزة كثر ، ويرون المعركة معها معركة مصيرية . ونعتقد بقوة أن أي عدوان إسرائيلي جديد عليها مهما تناهت وحشيته وعنفه لن يأتي لإسرائيل بأي مكسب . وألم تكن العدوانات السالفة وحشية وقاسية ؟! إسرائيل اشتبكت مع غزة في 2014 في أطول حرب في تاريخها ، وماذا كانت النتيجة ؟! بقيت غزة ، وبقيت عقدتها ، وتضاعفت قوة المقاومة فيها . إسرائيل في معالجة عقدة غزة تجرب ما جربته من قبل : الحل بالقوة . وهي لن تكف عن متابعة هذه المتوالية الفاشلة الخاطئة ، وتعترف أن عقدة غزة سياسية وطنية فلسطينية ، لا أمنية تحلها القوة . هي لا تريد مواجهة سطوع هذه الحقيقة ، وتهرب دائما إلى الحل بالقوة العسكرية دون أي استخلاص للعبرة من إخفاقاتها السالفة في استعمال القوة ، وما هذا إلا لكون إسرائيل ليست دولة سوية طبيعية ، هي ولدت بالقوة ، وعاشت إلى اليوم بالقوة في أرض شعب آخر ، وتوالي التوهم بأن القوة التي أوجدتها وحمتها يمكن أن تزيل الشعب الذي سرقت أرضه ، أي أنها بعد أن سرقت الأرض تريد أن تزيل أهلها ، وهذا مستحيل ، والفلسطينيون اليوم بين النهر والبحر أكثر من الإسرائيليين عددا ، ويعرف الإسرائيليون هذه الحقيقة ، ويقلقون منها فزعين ، لكنه ليس القلق الذي يحركهم إلى أي قدر من العقلانية الإيجابية ، خلاصته أن الشعب الفلسطيني تستحيل إزالته من أرضه . وإلى أن يتحركوا إلى هذا القدر من العقلانية سيواصلون تجريب المجرب في غزة الذي استقر انعدام نفعه . صحيح أن غزة تقاسي كثيرا من تجريبهم الوحشي الهمجي ، لكنه قدر أهلها ، وقدر الشعب الفلسطيني ، ولو إلى حين ، وحقائق التاريخ لا تصنع بين يوم وليلة ، ولا مفر من تراكمات في أحداثه لتولد حقائقه الجديدة . وواضح أن الإسرائيليين لم يحسنوا قراءة وفهم تطورات الأحداث الأساسية في غزة منذ احتلالهم لها في 1967 ، وتلاحق فشل مشاريعهم فيها ، ابتداء من العمل على تفريغها من أهلها بعد احتلالها بالترحيل القسري والترحيل الإغرائي إلى أن أجبروا في سبتمبر 2005 على مغادرتها بقوة سلاح المقاومة ، وتنامي قوة هذه المقاومة في أسوأ ظروف حصار عرف من قبل في أي جزء من العالم حتى صاروا يقرون بأن هذه المقاومة صنعت معهم معادلة توازن رعب . خلاصة تاريخ علاقة الإسرائيليين مع غزة أنها تزداد قوة ومنعة في مقارعتهم ، وهم لا يستطيعون بتأثير نوعية اختلاق دولتهم استيعاب هذه الحقيقة الجلية ، فيواصلون تجريب المجرب الذي تأكد إخفاقه . كان رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق الذي اغتاله إسرائيلي يمني الأصل ؛ سبق رئيس وزرائها الآخر شارون في محاولة الانفلات من مخالب وأنياب عقدة غزة ، مرة بالتمني بأن تغرق في البحر مثل سفينة عاثرة الحظ ، ومرة بالتخطيط العملي حين قال : " سأخرج غزة من تل أبيب " ، ولو عاش لنفذ ما خطط له ، وتل أبيب في فلسطين ، وغزة في فلسطين ، ولا محالة ، ذات تاريخ ، أن تخرج تل أبيب بهويتها الاستيطانية الغريبة من فلسطين ، وغزة باقية ؛ لأنها قطعة أصيلة من لحم فلسطين .
وسوم: العدد 824