سورية وإشكالية الأقليات
1. لاشك أن دراسة الظواهر الاجتماعية ومنها ظاهرة الأكثرية والأقلية ، تختلف اختلافا جذريا عن دراسة الظواهر الطبيعية من حيث أن الدارس أو الباحث في الظواهر الاجتماعية هو نفسه جزء من المشهد الإجتماعي الذي يدرسه ،وبالتالي فإن القارئ الفطن لا يحتاج إلى كبير عناء ، لكي يحكم من المكتوب على الكاتب ، وفيما إذا كان هذا الكاتب ينتمي إلى هذا الطرف أو ذاك . حتى في حالة حرصه الشديد على توخّي الموضوعية والحيادية فيما يكتب ، أوالتخفي وراء بعض العبارات اللغوية التي يمكن أن تفضح أكثر مما تستر . وتزداد هذه الإشكالية ( دراسة الظواهر الإجتماعية ) تعقيداً في وطننا العربي ومنه سورية ، حيث ماتزال العلاقات العشائرية والقبلية ، وما تزال الأمية السياسية والثقافية واللغوية تلعب دورا أساسيا فيها ، وبما في ذلك ماسنطلق عليه هنا اسم " الأمية الديموقراطية " .
2. ونرغب أن نشير هنا إلى واحدة من الظواهر الإجتماعية التي شهدناها بأنفسنا ذات يوم ، الا وهي ، العلاقة الإنسانية بين المريض والطبيب ، إذ لا يزال يدور في ذاكرتي مشهد تلك الطفلة البريئة التي أصابها من جملة ما أصاب سلاح بشار الأسد الكيماوي الذي قصف به غوطة دمشق وزهق أرواح مئات المواطنين والمواطنات الذين كان معظمهم من الأطفال النائمين في أحضان آمهاتهم فجر يوم الثلاثاء في 21 آب 2013 ، حيث كانت هذه الطفلة البريئة وهي تفيق من الإغماء تسأل الطبيب المعالج " عمو أنا عايشة ؟ " ، فيجيبها الطبيب " عمو إنت عائشة " . شاهدي هنا أن كلا من الطبيب والطفلة المريضة لم يكونا معنيين بما يجري خارج المستشفى ، وإنما كانا معنيين بالحياة نفسها كقيمة إنسانية ، قبل أن تكون قيمة سياسية أو اجتماعية ، أقلية وأكثرية .
3.وإذا ماتوقفنا عند المفهوم الأخير( الأقلية والأكثرية ) قليلاً ، فلابد من الإشارة إلى أن التعريف السوسيولوجي للأكثرية والأقلية يختلف بين بلد وآخر ، فالأكثرية في هذا البلد يمكن أن تكون أقلية في بلد آخر ، والخلافات بين الأكثرية والأقلية هنا ، يمكن أن تتحول إلى تعاون وتلاحم في بلد آخر يكون الطرفان معا فيه أقلية . وبصورة عامة ، فإن مفهوم الأكثرية والأقلية ‘ ينطوي على عدة أبعاد أبرزها مثلث ، البعد الإثني ، والبعد الديني ، والبعد الطائفي ، وبما أن هذه الأبعاد الثلاثة متداخلة ومتشابكة ( الأكراد كمسلمين سنة ، المسيحيون والعلويون والدروز والإسماعيليون كعرب ) ، يصبح الباحث أمام إشكالية معقدة ، بل وتبدو في بعض الحالات عصية على الحل ، ولاسيما حين تدخل العشائرية / القبلية كبعد رابع ، ويدخل الإحصاء العددي كبعد خامس ( السنة والشيعة في العراق ) ، ويدخل الجهل والأمية كبعد سادس ، ويدخل التزوير لنتائج الإستفتاءات والانتخابات كبعد سابع ، فسيصبح الباحث أمام خلطة اجتماعية كيماوية عجيبة ، يصعب عليه فرز وتحديد وملاحقة تفاصيلها.
4.نظريا يبدو أن " الهروب إلى الأمام " يمثل حلاً صحيحا وعملياً ، وأعني به الهروب إلى حل " المواطنة والديموقراطية " اللذين يرى الكاتب فيهما حلا لهذه الإشكاليات المعقدة والمتداخلة بين مفهومي الأقلية والأكثرية . بيد أن كلا من المواطنة والديموقراطية تحتاجان - عملياً - إلى مواطنين ترقى مستوياتهم السياسية والأخلاقية والوطنية إلى مستواهما ، أي إلى مواطنين يؤمنون حقاً بمبدأي المواطنة والديموقراطية . إن غياب أو تغييب مثل هؤلاء المواطنين ، يعتبر غياباً أو تغييباً لكل من المواطنة والديموقراطية على حد سواء . ومن جهة أخرى ، فإن " الديموقراطية " التي يقبل بها البعض ، ولكن " بشرط " ، ألا يصل بواسطتها هذا التيار أو ذاك إلى سدة الحكم (!!) ، والتي سنطلق عليها اسم " الديموقراطية المشروطة " ، إنما تعتبر برأينا ديكتاتورية مقنعة تقوم على رفض الآخر وعزله ، وبالتالي فهي نوع من الهروب إلى الوراء وليس إلى الأمام .
5. الحل العملي والممكن برأينا ، لحل إشكالية الأقليات هو العمل الوطني العقلاني والعلمي الهادف إلى خلق/ تكوين مواطن يعي ويطبق مفهوم المواطنة والديموقراطية ، أي القبول بالآخر المختلف . والتعامل معه على أنه إن لم يكن أخا له في الدين أو الجنس أو العرق أو الطائفة أو الجيل أو المستوى الثقافي ، فهو أخ له في الإنسانية ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات 13 ) . إن تكوين مثل هذا المواطن الصالح والواعي ، إنما تقع مسؤوليته على الجماعة الاجتماعية كلها بدءاً من الأسرة وانتهاءً بالأحزاب السياسية مروراً بالمدرسة والمسجد والكنيسة والنقابات المهنية ووسائل الإعلام المختلفة وأيضاً بالدستور ، الذي يحمي العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات للجميع دونما استثناء ، وتكون " الحرية " هي العمود الفقري الذي تستند إليه كافة هذه الجهات المسؤولة عن تكوين المواطن وعن كافة أشكال المواقف والسلوك ولا سيما مثلث المواطنة والديموقراطية والدستور ، والذي هو المثلث الذهبي لكل من الأكثرية والأقلية على حد سواء .
6. أما في سورية ، ولأنها محكومة بالحديد والنار من قبل آقلية طائفية منذ عام1970 ( إن لم نقل قبل ) فإن مفهوم الأكثرية والأقلية ينطوي على بعد ثامن هو " النفاق " . من حيث أن من يمالئون النظام ( الموالاة ) ، سواء أكان ارتزاقاً أو خوفا أو من وقع الحافر على الحافر ، فإنهم غالباً ما يجانبون الحقيقة في كتاباتهم حول التركيبة الديموًغرافية للشعب السوري ، أي أنهم يكذبون ويزورون ، و يرفعون النسب المئوية لهذا المكوّن الديموغرافي ، ويخفضونه لذاك ، بحيث تبدو سورية في كتاباتهم وإحصاءاتهم كما لو كانت مجرد بلد أقليات ، حيث لاتزيد نسبة المكون الأساسي لمجتمعها ( السنة) وفق أحدهم الـ 45% !!، أي أفل من نصف السكان ، وإذن فإن حكم عائلة الإسد هو حكم طبيعي ومشروع وليس حكم أقلية طائفية معينة وصلت إلى الحكم عن طريق البسطار والدبابة ، والحماية الأجنبية ، كما يشيع البعض !.
7.لقد همس في أذني ذات يوم المرحوم اللواء أحمد سويداني عام 1967 ) وكان هذا قبل أن يلجأ إلى بغداد هرباً من الإعتقال والسجن : ( إن من أوصل الحمار ( هذا قوله ) إلى المئذنة ، هو من سينزله عنها ). لقد عاد أبو وائل من بغداد عام 1970 ( متوهماً أن حافظ سيسمح له بالإقامة في بيته وبين أفراد أسرته بعيداً عن كل ماله علاقة بالسياسة ) ، ولكن نتيجة هذه الثقة كانت ، أكثر من عقدين في سجن من دعاه ذات يوم " أخي وأبي " والحمار مايزال فوق المئذنة ، بل وورث الحكم بعد موته عام 2000 لجحش من نسله ، هو من يحكم سوريا اليوم . ولكن وبعد ثورة آذار 2011 المجيدة ، لم يعد لا حمار أحمد سويداني ، ولا وريثه بشار هو من يجلس على كرسي الحكم في سورية ، وإنما الدب الروسي ذو الرأسين ، والذي سنطلق عليه إسم " بوتنياهو " ( بوتين + نتنياهو ) . وأرغب أن أشير في إطار هذه الفقرة أيضاً ، إلى أنني التقيت بحافظ الأسد ذات يوم ، وسألته : رفيق حافظ ، لماذا لاتفرج عن أحمد سويداني ؟ ، فكا ن جوابه الواضح ، والذي كان يمثل تهديداً مبطناً لي أيضاً هو التالي : ( رفيق محمد ، إن من يدخل السجن عندي لايمكن ان يخرج منه !!) . لقد خرج أبو وائل من السجن بعد وفاة الديكتاتورالكبير ، وبعد أن قضى مايربو على العقدين فيه ، ولكنه توفي بعد بضعة أشهرمن خروجه من السجن ، ولكن تحت وطأة المرض ، بل الأمراض التي خرجت معه من هذا السجن . وجدير بالملاحظة والذكر هنا ، أن الوريث بشار( أبو البراميل ) باعتقاله لمئات الألوف من السوريين ، وبمن فيهم الأطفال والنساء ، وقتل الألوف منهم تحت التعذيب ، إنما كان ينفذ بهذا وصية الوالد على مايبدو ( !! )، فلا نامت أعين الجبناء .
8. والخلاصة : إن التداخل بين الفئات المختلفة للتركيبة الإجتماعية - السكانية في سورية ، ولا سيما إشكالية الأقليات ، وإن مشاهدة ماجرى ويجري في سورية ، ليس منذ 18 آذار 2011 ، بل منذ الثامن من آذار 1963 ، تجعل من الصعب على الباحث تحديد النسب المئوية لهذه التركيبة بدقة ، من جهة ، وملاحقة تفاصيلها السوسيولوجية بدقة وبموضوعية أيضاً ، من جهة أخرى ، ذلك أن الباحث في الظواهر الإجتماعية ، هو جزء من المشهد الإجتماعي الذي يبحثه ، كما سبق أن أشرنا ، وبالتالي فإنه يصعب عليه أن ينأى بنفسه عما يجري حوله . ولكن هذا لايمنع من التقرير العلمي ، أن في سورية اكثرية واضحة المعالم ( السنة ) ، واقليات ( متعددة ) واضحة المعالم أيضاً .
إن العودة إلى وقائع التاريخ ( الإسلامي والعربي والسوري )،القريب منه والبعيد ، إنما تشير بما لايقبل الشك ، إلى أن الشعب السوري بكل مكوناته الإجتماعية ، كان قبل مجيء عائلة الأسد ومرتزقتها إلى الحكم ، وقبل استقوائها بالقوى الطائفية والأجنبية الأخرى ، كان واحداً وموحداً ، وفي إطار تعايش وطني وأخوي ، لافضل فيه لمواطن على أخر إلاّ بالتقوى . فلعن الله من أفسد هذا التعايش الوطني الأخوي في سورية ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( ملاحظة : يشير الكاتب بكتابته ل " سورية " بالتاء المربوطة إلى الجمهورية العربية السورية ، ( سورية الصغرى ) وباللف " سوريا " إلى سوريا الكبرى المعروفة . )
وسوم: العدد 829