أمريكا و تركيا....صراع الإرادات؟
يمر التحالف الأمريكي مع تركيا اليوم في أسوء مرحلة في تاريخه بين البلدين، فمنذ الحرب العالمية الثانية لم تشهد العلاقات الأمريكية التركية هذا القدر من التوتّر! بدت ملامح التوتر واضحة منذ ستة عشر عاماً، عندما رفض البرلمان التركي تحويل القواعد التركية إلى نقاط عسكرية أمريكية في أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. فتركيا التي كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حليفا دائما للولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو؛ تعيش الآن أسوء أوقاتها في علاقتها مع الغرب. ويرجع هذا التوتر إلى سلسة من القضايا الخلافية بين البلدين على مدار الأعوام الأخيرة.
وأنّ "التحالف الأمريكي التركي" يتعرّض للتآكل منذ عام 2003 خلال الغزو الأمريكي للعراق، حيث بدأت تركيا تغير نظرتها لسياستها الخارجية، ثم تعمّقت الخلافات أكثر بعد عام 2011، حيث بدأت تركيا في استعادة مكانتها الإقليمية، وكذلك استعادة الهوية التركية القائمة على زعامة الجزء الأكبر من العالم الاسلامي. وهو ما يتعارض مع المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة، إذ إن موقع تركيا الاستراتيجي يلعب دورًا هاما في حماية الضفة الشرقية للقارة الروسية. وللإجابة عن الموضوع تظهر أسئلة عدة.
ما هي الأهمية الجيواستراتيجية لتركيا في المصالح الأمريكية والغربية”؟ ما هي أبرز القضايا الخلافية في العلاقات الأمريكية التركية؟ هل هناك اتجاه نحو الصعود، أو الهبوط في العلاقات الأمريكية التركية.
يشكّل موقع تركيا، أهمية استراتيجية كبيرة، حيث يؤمّن أقصر الطرق البرية، والجوية، الدولية بين الشرق والغرب، وتقع تركيا ضمن شبه جزيرة الأناضول، وهي محاطة بثلاث مسطحات مائية حيوية، "البحر الأبيض، والبحر الأسود، وبحرية إيجة" وتعتبر منطقة الأناضول واحدة من المواقع المركزية على مستوى العالم، ونقطة التقاء بين القارات الثلاثة إفريقيا وآسيا وأوروبا، ولعب الموقع الجغرافي دورًا محوريًا في العمليات العسكرية. وكذلك تأتي أهميته في نقل الطاقة، حيث يعتبر الجسر الممتد لنقل الطاقة، بين الدول العربية المنتجة للبترول ودول منطقة آسيا الوسطى، والشرق الأوسط ومجموعة الدول المستهلكة في قارة أوروبا.
إن تطورات الأحداث في أكثر من محور أثبتت من جديد؛ الحاجة الغربية لتركيا، ليس فقط كموقع جغرافي، ولكن أيضاً كامتدادات عرقية، ولغوية، وثقافية، وتاريخية في منطقة آسيا الوسطى، والقوقاز، والبلقان التي تعرضت لحالة من الفراغ الذي خلّفه الانسحاب السوفييتي، ونشوء دول جديدة في تلك المناطق الغنية بموارد الطاقة في آسيا، وقد عملت الولايات المتحدة على التشجيع الحذر لمد النفوذ التركي في تلك الدول الآسيوية الستة التي تتحدث خمس منها بالتركية؛ لحسر نفوذ روسيا من جهة، ومن جهة أخرى لمواجهة إيران الطامحة في مد نفوذها إلى تلك المنطقة.
وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة الأمريكية توجّه أنظارها نحو تركيا حيث أدركت مدى أهميتها في تحقيق مصالحها. وهذه الأهمية تعود بالأساس إلى عاملين هما:
أهمية الموقع الاستراتيجي التركي سياسة الاحتواء الأمريكية لروسيا
إن التحالف الاستراتيجي الأمريكي مع تركيا يشهد اليوم مرحلة جديدة قد تسفر عن تشكّل صورة جديدة للعلاقة بين البلدين نتيجة لسلسة من الخلافات والأزمات بينهما خلال الأعوام الأخيرة. وفيما يلي سنعرض لأبرز القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة، وتركيا، وللأدوات السياسة الخارجية التي استخدمتها الولايات المتحدة تجاه تركيا.
تمثل الأزمة السورية أحد مجالات التغيّر الملموسة في التحالف الأمريكي التركي؛ نظراً لأهمية تلك الأزمة بالنسبة لواشنطن، وتعد قضية "فتح الله غولن" أيضاً من أقوى أسباب التوتر الأمريكي مع تركيا، فإعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل في ديسمبر 2017 أدى إلى مواجهة سياسية، ودبلوماسية بين الولايات المتحدة وتركيا، كما أنّ الدعم الأمريكي لأكراد سوريا، وآخرها شراء تركيا لمنظومة S400 من روسيا، جعل أمريكا تهدّد بفرض عقوبات أمريكية وأوروبية، وإخراج تركيا من برنامج طائرات … F-35.
من خلال متابعتي للقاءات المتلفزة لبعض الإخوة المحلّلين تبين أن السبب في شراء تركيا لمنظومه S400 هو لتامين حماية شخص "الرئيس رجب طيب أوردغان"، وأن هذه المنظومات ليس للحمايات الشخصية، بل هي منظومة سيادية لتأمين الحماية لأجواء الدولة ضدّ التهديدات الجوية المعادية، وأن سبب شراء تركيا للأنظمة الصاروخية الروسية يعود إلى الضرورة الموضوعية لضمان أمن الأراضي التركية ضدّ التهديدات الصاروخية والجوية التي تزداد أخطارها بشكل مستمر، بعد أن تعذر حصول تركيا على منظومات باتريوت الأمريكية.
إن الدفاع الجوي ليس سلاحًا معينًا بذاته بل هو منظومة متكاملة تظهر أهمية كبيرة في القوات المسلحة بشكل واضح للعيان، وذلك لحماية المواقع، والأهداف الحيوية الاستراتيجية والمهمة جداً في الدولة، ومسارح العمليات، لحماية "أرض الوطن ومياهه وسمائه، ومنع الطائرات، والصواريخ المعادية من اختراق أجواء الجمهورية والمساس في السيادة الوطنية، لا سيما في عصر التطور التكنولوجي، الذي أدّى إلى تطوّر وسائل التهديد الجوي المعادي تطوراً كبيراً يفوق التصوّر؛ مما عقّد معركة الدفاع الجوي، وتطلب أن يكون تطوير منظومات الدفاع الجوي موازية باستمرار من خلال إدخال الحداثة لها لمواكبة تطور التهديد الجوي والتصدي له أو منعه من تنفيذ مهامه، لان أي خرق لأجواء الدولة سواء من طائرات، أو صواريخ ؛ يعتبر خرقا للسيادة الوطنية، ولذلك فكل دولة من حقها البحث عمّا هو الأفضل لحماية أجوائها...
فمع وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة في تركيا، بدأت تركيا تعيد التفكير في مكانتها إقليمياً ودولياً ولاسيما منذ عام 2011 الذي شهد نقلةً نوعية للسياسة الخارجية التركية، حيث انتقلت من المحافظة والانكفاء والحياد إلى المبادرة والنشاط والفاعلية السياسية وبخاصّة تجاه المنطقة العربية، والرغبة في لعب دور إقليمي وعالمي في آن واحد. ومن هنا أدركت الولايات المتحدة أن تركيا بدأت تتّبع سياسة خارجية جديدة.
لقد مثلت حقبة العدالة والتنمية في تركيا تحوّلاً للدور التركي في نظر المنظومة الغربية التي حصرته في الدولة الوظيفية الحارسة لمصالحها دون اعتبار لمصالح تركيا الوطنية، فإذا بها تتحول سياستها الى رغبة تركيا في لعب دور إقليمي وعالمي، ممّا أوقع الغرب في حالة من الإرباك فلا هو قادر على احتضان تركيا بشكل كامل لاعتبارات متعددة، ولا هو قادر على فكّ الارتباط بها لأهميتها الاستراتيجية، والأمنية، والاقتصادية... ولذلك يبدو أن الحل الوحيد الذي يناسب الغرب هو تغيير السلطة الحاكمة في أنقرة أو إضعافها على الأقل، ويندرج في هذا السياق مجموعة "اختبارات" مرّت بها البلاد بدءاً من أحداث غيزي بارك 2013 وانتهاء بمحاولة الانقلاب 2016، ونتيجة فشلها كلها في الوصول إلى هدفها فهذا يفتح العلاقة بين الطرفين على احتمالات متعددة كالحروب الإعلامية، والضغوط الاقتصادية أو السياسية من خلال تحريك الملف الكردي، وافتعال قلاقل داخلية تضعف من موقف الحكومة في الداخل وتضطرها للعودة إلى المربع التركي القديم، بل يبقى الإعداد لانقلاب عسكري ثان يتلافى أخطاء الأول وارداً ولو بعد سنوات.
تركيا عضو في حلف الناتو وتملك ثاني أكبر جيش في الناتو بعد أمريكا، وتنتشر فيها قواعد جوية للحلف، وتستضيف مراكز لمنظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية، كما أثير وجود صواريخ نووية أمريكية فيها. وبموازاة التحالف العسكري، فقد نشأ تحالف سياسي جسدته الرغبة التركية العارمة في دخول الاتحاد الأوروبي، ومنذ توقيعها على بروتوكول أنقرة 1963 حتى اليوم لم تتمكن تركيا خلال نصف قرن من التحول إلى عضو كامل العضوية من جهة، كما لم تقم أوروبا بإغلاق الملف بشكل كامل أيضاً، بل بقي الملف مفتوحاً حرصاً من تركيا على تحقيق حلمها التاريخي بكل امتيازاته الاقتصادية والسياسية والأمنية، وحرصاً من أوروبا أن لا تفقد حليفتها الاستراتيجية وما يجره عليهما التحالف من مكاسب.
اتجهت الولايات المتحدة إلى استخدام لغة التهديد والتحدي أكثر من الدبلوماسية، وقامت باستخدام واسع النطاق للأداة الاقتصادية متمثلة في فرض عقوبات اقتصادية على تركيا في صورة مضاعفة الرسوم الجمركية على الألومنيوم والصلب في تركيا، ومن المتوقّع أن تستمرّ الولايات المتحدة في فرض العقوبات على تركيا. وهذا يتّضح من التهديدات الأمريكية فضلًا عن العقوبات الاقتصادية التي من شأنها خنق تركيا اقتصادياً وإفقاد الليرة التركية قيمتها سعيًا لإثناء تركيا عن الصفقة! ولكن الصفقة تمّت بالفعل، واستمرار أمريكا بهذا النهج قد يدفع تركيا للبحث عن بديل في التحالف والتسليح، وروسيا هي المرشح البديل، فهل تعي ذلك أمريكا وأوروبا؟
إن التحالف الأمريكي مع تركيا يقوم على أسس سياسية، واقتصادية، وأمنية معقدة بنيت خلال عشرات السنين من التعاون مما يجعل النكوص عنها باهظ الثمن لكلا الطرفين، ولكن من ناحية أخرى، وعلى الرغم من كل هذه التوترات ليس هناك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة ستنقلب تماماً على شريكتها الاستراتيجية، فمصلحة الولايات المتحدة في الابقاء على العلاقات الجيدة مع تركيا لأهميتها الجيوسياسية للسياسة الأمنية الأمريكية في مواجهة تحديات التحولات السياسية في الشرق الأوسط.
يمكن القول: إن التشدّد سيظلّ يحكم السياسة الخارجية الأمريكية في التعامل مع حليفتها تركيا في الفترة المقبلة، وليس ثمة بوادر لحدوث انفراج في العلاقات، حتى يتم تبدّل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تركيا، بحيث تتقبل رغبة تركيا في لعب دور إقليمي، أو تتبدل السياسة الخارجية التركية بشكل جذري وتعود إلى موقع التابع للولايات المتحدة، وهو أمر مستبعد تماماً.
بناءً على ما سبق يتضح أن هذه المرحلة تشهد إرهاصات علاقة جديدة آخذه في التشكّل قد تكون فيها تركيا أبعد عن الولايات المتحدة من دون قطيعة معها، وأقرب إلى روسيا من دون تحالف معها. فأن الولايات المتحدة لا يمكن لها التخلي عن تركيا على الأقل في ظل المعطيات الراهنة، لأن البديل هو ترك فراغ يملؤه التمدّد الروسي الإيراني في المنطقة. وبات الغرب أمام خيارين لا ثلث لهما:
إما التضحية في تركيا والتخلي عنها أو محاولة استعادتها وتفهم الاسباب التي دفعتها نحو روسيا.
ويتوجب على تركيا ان تقوّي موقفها الداخلي والخارجي لتنتصر الإرادة الوطنية، من خلال المبادرة في حل مشاكلها الداخلية وفي مقدمتها الملف الكردي، ووضع استراتيجية لتطهير مؤسسات الدولة من القوى الانقلابية، ولصياغة مشروع وطني شامل وجامع بالتوافق مع القوى المعارضة، والعمل على إجراء مراجعة شاملة لارتباطها مع الغرب، وتوثيق علاقاتها مع حلفاء خارج المنظومة الغربية "كروسيا، والصين، ومحيطها العربي، والدول الاقليمية ...
وسوم: العدد 835