أين آثار النبيّ يا مكّة المكّرمة؟!
أينَ هو بيتُ أمّنا خديجة رضي الله عنها؛ حيث زمّلته ودثّرته وحيثُما كان يتنزّل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟!
تأتيكَ الإجابةُ كالصّاعقة: هو "دورة المياه" العامّة تلك.
هناكَ في مكّةَ المكرّمة حيثُ تلقي بنفسكَ في بحرٍ من القداسةِ لا ساحل لمنتهاه، تشدّك الذّكرى والحنينُ إلى المواقع والمنازل التي عاش فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ وتجول ببصركَ باحثًا عن تلكم المواقع والآثار النبويّة وآثار الصّحابة فيرتدّ إليك البصرُ حسيرًا كسيرًا.
فإن سألت عن البيت الذي ولد فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستجده قد أزيلَ تمامًا وتحوّل إلى محلّ للجزارة وتجارة اللحوم ليتطوّر بعد ذلكَ إلى مكتبة عامّة.
أمّا بيت أبي أبكر الصّدّيق رضي الله عنه فقد تمّت إزالته تمامًا هو الآخر لينتصب مكانه فندق "مكّة هيلتون"
وأمّا بيت عثمان بن عفّان رضي الله عنه فقد تمّ تجريفه تمامًا لترتفع مكانه عمارتان من خمسين طابقًا لتأجيرها للحجّاج.
أمّا بيت الأرقم بن أبي الأرقم؛ مقرّ الدّعوة الأوّل، ومركزها الذي أسلم فيه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقد تمّ هدمه في عهد الملك سعود بن عبد العزيز عام 1955م
وكذلك بيت بلال بن رباح بقي صامدًا إلى سبعينيّات القرن الماضي لتناله الإزالة والتجريف تحت عنوان التوسعة.
وكانت مجزرة التجريف الأكبر هي التي طالت أكثر من أربعمئة مبنى أثريّ يعود إلى عصر النبوّة وصولًا إلى العصر العثمانيّ ليتمّ تشييد برج الساعة على جثث هذه المباني والمواقع الأثريّة؛ فكرمى عيون ساعة مكّة تهون الآثار ويهون التّاريخ وتهون ذكرى النبوّة.
لكَ أن تتخيّل أن عمليّات التّجريف والإزالة لكلّ الآثار النبويّة وآثار الصّحابة قد تمّت بعد استلام آل سعود سدّة الحكم في المملكة.
ومن أجل تبريرها فقد تصدّرت المؤسسة الدينيّة في السّعوديّة كِبرَ هذا الموضوع وألبسته ثوب الدّفاع عن الإسلام، ومحاربة الشّرك، وصيانة النّاس عن بدعة التبرّك بالآثار النبويّة، وأصدرت لذلك الفتاوى والكتب!!
إنَّ محو الآثار النبويّة وآثار الصّحابة في مكّة المكّرمة لتحلّ محلّها الأبراج الشّاهقة والقصور الملكيّة التي تخنق المسجد الحرام من كلّ اتّجاه ليس مجرّد جريمةٍ بحقّ هذه الآثار فقط، بل هو محو لهويّة مكّة المكرّمة وتحويلها إلى نمطٍ حداثيّ مفرّغ من روح القداسة.
كما أنَّ هذا المحو الممنهج والمخطط له قد ساهم في إفراغ الحجّ من كثيرٍ من مقاصده القائمة على تحقيق المساواة تعايشًا عمليًّا، وانتفاء الطبقات وارتباط المسلمين بهويّتهم وإشباع روحهم وهم يعيشون على خطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام في المدينة الأقدس على وجه الأرض.
وممّا ينبغي ملاحظته في هذا الإطار بأنَّ سياسة الهدم ومحو الآثار طالت فقط آثار النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام وصولًا إلى الآثار العثمانيّة؛ بينما حافظت السلطات السعوديّة بكلّ أمانة وحرص على الآثار اليهوديّة في المملكة.
ففي الوقت الذي يتمّ تحويل بيت خديجة رضي إلى عنها إلى دورات مياه عامّة، وتمحى بيوت أزواج النبيّ وأصحابه تلقى آثار اليهود في خيبر وحصونهم عناية فائقة، فهي محروسةٌ يمنع التعرّض لها ويتمّ الاعتناء بها ترميمًا وصيانة على الدّوام!
وأمام حصن كعب بن الأشرف أحدّ أشدّ أعداء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترتفع عبارة "تحذير؛ منطقة آثار: يحظر التعدي عليها تحت طائلة العقوبات الواردة بنظام الآثار بالمرسوم الملكي رقم و/26 وتاريخ 12/6/1392ه"!!
إنّ "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر" الذي محيت آثار النبوّة تحت ستاره بالباطل؛ هو ذاته المبدأ الذي ينبغي رفعه بالحقّ رفضًا وإنكارًا لهذا التشويه المتعمّد لمكّة المكرّمة؛ فإنَّ محو وتدمير الآثار النبويّة من أقبح المنكرات التي تستهدف هويّة مكّة المكرّمة وتاريخ الأمّة كلّها، وهو اعتداء على ميراث النبوّة والصّحابة؛ فأينَ هم الآمرون بالمعروف والنّاهون عن هذا المنكر؟!
وسوم: العدد 836