كروية الأرض حقيقة علمية أشار إليها القرآن الكريم، وأكدها العلماء المسلمون في بحوثهم الجغرافية
د. محمــــد رفعت أحمد زنـجـير
من الحقائق الجغرافية الثابتة: كروية الأرض، وهو أمر لم تكن العرب تعرفه أو تقول به، وليس هناك أية إشارة في تراث العرب قبل الإسلام تشير إلى هذا الأمر، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل ـ بصورة غير مباشرة ـ على أن الأرض كرة، وقد صرح علماء المسلمين في تفسيرهم لآي القرآن بذلك، مما يعكس تناغماً وانسجاماً بين معارف الوحي وحقائق العلم.
أولاً: دعوة الإسلام للتفكر والبحث
إن من مزايا القرآن الكريم دعوته إلى التفكر في خلق السماوات والأرض[1]، لاكتشاف السنن الكونية ومعرفة الحقائق العلمية التي تقود العقل البشري إلى معرفة الخالق المبدع العظيم لهذا الكون، وقد نعت الله عباده المؤمنين بأنهم: (...وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ويقودهم هذا التفكير إلى الإقرار بأن وراء هذا التنظيم الدقيق للكون غاية وهدف: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (سورة آل عمران، الآية 191).
والهدف من هذا كما هو معلوم هو موافقة السلوك الإنساني للإرادة الإلهية، والإستجابة لنداء الخالق المبدع وحده لا شريك له، الذي تلهج إليه ألسن المؤمنين بأن يجنبهم من العذاب الخالد، ويرزقهم السعادة الأبدية.
ثانياً: دور علماء المسلمين في اكتشاف المعرفة
وقد قام العلماء المسلمون بدورهم الإجابي في هذا الإطار، فتفكروا في خلق السماوات والأرض، وأسهموا في تطوير علم الفلك وعلم الجغرافيا وغيرهما من العلوم، رغم صعوبة البحث وقلة الأدوات في العصور القديمة. وقد وضعوا تصورا لشكل الأرض والسماء ينسجم ومعطيات العلم الحديث، مما يعد سبقا لهم في هذا الميدان، وهذه حقيقة لا مراء فيها. والحقيقة الأخرى هي أن العلماء المسلمين في بحوثهم هذه دفعوا أي شبهة في تناقض العقل مع الدين، فما أثبته علماء الكون من حقائق ينسجم مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا يدل على أن مصدر الدين والمعرفة هو واحد؛ وهو الله عز وجل.
ثالثاً: شهادة العلماء الغربيين على نزاهة البحث العلمي عند المسلمين
لقد أقر المنصفون من الباحثين الغربيين بأن الإسلام دين العلم والمعرفة، وأن البحث العلمي له مرتبته في الدين الحنيف، من ذلك ما ذكرته زيغريد هونكة في هذا الصدد مشيدة بموقف الإسلام من العلم، وهو: "استعداد النبي بالوحي، وعبر الهداية الدينية الخاصة والعالمية، لا لقبول المعرفة البشرية العقلانية فقط، بل والحث عليها، حتى إن مداد طالب العلم ارتفع إلى درجة التقديس، وأصبح بمثابة دماء الشهداء، هذا بدلا من حشر المؤمنين في حيز عقائدي ضيق بعيدا عن المتنفس كما فعلت المسيحية"[2].
وفي الإطار ذاته يقول الأستاذ موريس بوكاي: "علينا أن نعترف بأن العلماء قد لاقوا مصاعب جمة من السلطات الدينية لبعض الأديان، ففي الوسط المسيحي وعبر قرون كثيرة بادرت سلطات مسئولة ودون الاعتماد على أي نصوص حقيقية للكتب المقدسة بمعارضة تطور العلوم، اتخذت هذه السلطات ضد العلماء الذين كانوا يحاولون تطوير العلوم الإجراءات التي نعرفها، تلك التي دفعت بعض العلماء إلى المنفى تلافيا للموت حرقا، أو إلى طلب المغفرة بتعديل مواقفهم وبالتماس العفو…أما في الإسلام فعموماً كان الموقف إزاء العلم مختلفاً، إذ ليس هناك أوضح من ذلك الحديث الشهير للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يقول: (اطلب العلم ولو في الصين). أو ذلك الحديث الذي يقول: (إن طلب العلم فريضة على كل مسلم وكل مسلمة). هناك أمر رئيسي: القرآن كما سنرى فيما بعد في هذا الجزء من الكتاب إلى جانب أنه يدعو إلى المواظبة على الاشتغال بالعلم، فإنه يحتوي أيضا على تأملات عديدة خاصة بالظاهرات الطبيعية، وبتفاصيل توضيحية تتفق تماما مع معطيات العلم الحديث، وليس هناك ما يعادل ذلك في التوراة والإنجيل"[3].
رابعاً: كروية الأرض عند علماء المسلمين
هذا أحد الموضوعات التي تظهر واقعية علماء المسلمين وإقرارهم بما يقتضيه العقل، فلقد أكد العلماء المسلمون أن الأرض كرة، ووافقوا ما قاله العقل والمنطق في هذا الصدد، وفسروا الآيات القرآنية بما يوافق الحقائق العلمية، من ذلك:
أ- ما ذكره الرازي في تفسير قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (سورة النازعات، الآية 30). مشيراً إلى كروية الأرض: "كانت الأرض أولاً كالكرة المجتمعة، ثم إن الله تعالى مدها وبسطها، وليس معنى (دحاها) مجرد البسط، بل المراد أنه بسطها بسطاً مهيأً لنبات الأقوات، يدل عليه قوله: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (سورة النازعات، الآية31) والجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي.."[4].
ب - ويقول ياقوت الحموي بعد أن نقل آراء العلماء في صفة الأرض:"وأصلح ما رأيت في ذلك، وأسده في رأيي، ما حكاه محمد بن أحمد الخوارزمي، قال: الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفل بالحقيقة، والأرض مدورة بالكلية، مضرسة بالجزئية من جهة الجبال البارزة، والوهدات الغائرة، ولا يخرجها ذلك من الكرية"[5].
ويبين ياقوت أن الأرض مقسومة قسمين بواسطة خط الاستواء، حيث يقول: "وقال أبو الريحان ـ أي البيروني ـ : وسط معدل النهار يقطع الأرض بنصفين، على دائرة تسمى خط الاستواء، فيكون أحد نصفيها شمالياً، والآخر جنوبياً"[6].
ت - فإذا انتقلنا إلى الإمام ابن تيمية وجدنا له عناية عظيمة بوضع الأرض وصورة الأفلاك، ففي البداية يقرر أن الأفلاك مستديرة، وأن الفلاسفة أصابوا في استدارة الأفلاك، وأخطأ من خالفهم من المتكلمين[7]، وينص ابن تيمية على كروية الأرض فيقول: "اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، وهي في الماء المحيط بأكثرها؛ إذ اليابس السدس وزيادة بقليل، والماء ـ أيضًا ـ مقبب من كل جانب للأرض، والماء الذي فوقها بينه وبين السماء كما بيننا وبينها مما يلى رؤوسنا، وليس تحت وجه الأرض إلا وسطها ونهاية التحت المركز ؛ فلا يكون لنا جهة بينة إلا جهتان: العلو والسفل، وإنما تختلف الجهات باختلاف الإنسان؛ فعلو الأرض وجهها من كل جانب، وأسفلها ما تحت وجهها ـ ونهاية المركز ـ هو الذي يسمى محط الأثقال، فمن وجه الأرض والماء من كل وجهة إلى المركز يكون هبوطًا، ومنه إلى وجهها صعودًا، وإذا كانت السماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كُرِّية، وكذا الباقي. والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فَلاة، والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة .
والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، فإن لفظ [الفلك] يدل على الاستدارة، ومنه قوله تعالى: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس:40)؛ قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل، ومنه قولهم: تَفَلَّكَ ثدي الجارية: إذا استدار. وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك"[8].
ث - ويثبت ابن تيمية ـ بالعقل وحده ـ أنه ليس أحد على سطح الكرة الأرضية فوق أحد، بمعنى أن الذي هو في النصف الشمالي ليس تحت الذي يكون في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ولا العكس أيضاً، يقول: "وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبى، ولا بالعكس.
وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهو الذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستديرة، ليس بعضها فوق بعض، ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان أوالنبات أوالأثقال، لا يقال: إنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال تخيله الإنسان، وهو تحت إضافي؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف؛ فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض، أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان، ممن يقول: إن الأفلاك مستديرة. واستدارة الأفلاك ـ كما أنه قول أهـل الهيئة والحساب ـ فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسن بن المنادي، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى:(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(الأنبياء:33)، قال ابن عباس: فلكة مثل فلكة المغزل. والفلك في اللغة: هو المستدير، ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار، وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب، ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها، وسقفها ـ وهو فوقها ـ مطلقا، فلا يتوجه إليه، وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو، لا من جهاته الباقية أصلا"[9].
ج - والأمر بالنسبة للكواكب كالأمر بالنسبة لمن يكون في شمال أو جنوب الكرة الأرضية، فليس أحد منها تحتنا، والآخر فوقنا، بل جميعها فوقنا في السماء، يقول ابن تيمية: "والكواكب التي في السماء ـ وإن كان بعضها محاذيا لرؤوسنا، وبعضها في النصف الآخر من الفلك ـ فليس شيء منها تحت شيء، بل كلها فوقنا في السماء"[10].
ح - ويستشهد ابن تيمية فيما ذهب إليه من تصور حول هيئة الأرض والكواكب والنجوم من حولها برأي لأحد أصحاب الإمام أحمد، يقول: "وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي ـ من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد ـ: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين، غير متحركين: أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب. قال: ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركاتها،ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر على ذلك الترتيب، كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دوراً واحداً. قال: وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب. قال: فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، كالنقطة في الدائرة، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد، فيـــدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء"[11].
خ - ويستخدم ابن تيمية هذا التصور العقلاني لشكل الكون وكروية الأرض؛ وسيلة من أجل تفسير بعض النصوص الدينية، بحيث يتلاقى صحيح المعقول مع صحيح المنقول، فيقول: "وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة، وأن الله على عرشه، مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة متناقض، أو مقتض أن يكون الله تحت بعض خلقه ـ كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة الأفلاك ـ وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل، وهذا من غلطهم في تصور الأمر، ومن علم أن الأفلاك مستديرة، وأن المحيط الذي هو السقف في أعلى عليين، وأن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه، وهو قعر الأرض، هو [سجين] و[أسفل سافلين] علم من مقابلة الله بين أعلى عليين، وبين سجين، مع أن المقابلة إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفل، أو بين السعة والضيق؛ وذلك لأن العلو مستلزم للسعة، والضيق مستلزم للسفول، وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقاً، لا يتصور أن تكون تحتها قط ـ وإن كانت مستديرة محيطة ـ وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل"[12].
خامساً: تأويل صحيح المنقول بما يوافق صحيح المعقول
وهذا التصور لوضع الأرض وهيئة الكون من حولها متفق عليه عند علماء المسلمين كما ذكر ابن تيمية، فالأرض كرة ولا ريب، ولذلك أوَّل العلماء قوله تعالى: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (سورة الغاشية: الآية20). والذي يقتضي من حيث الظاهر أن الأرض مسطحة كما تبدو للعيان، وهذا هو سر الإعجاز في خلقها، فهي تبدو مسطحة مع أنها كرة في حقيقتها، وفي هذا الصدد قال المفسر الألوسي مبيناً معنى الآية وأنه يتوافق مع القول بكروية الأرض: "سفحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد، حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها، ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها"[13].
سادساً: خاتمـــــة
هكذا نجد أن المعرفة الصحيحة تتوافق مع الدين الحنيف، وأن علماء الدين كانوا يقرون ويعترفون بما يثبته العقل ويقتضيه المنطق، مما جعل المعرفة العلمية بالكون تقطع أشواطاً كبيرة في ظل الحضارة الإسلامية المجيدة، التي اتحد فيها العلم والإيمان معاً في أخيلة العلماء وواقع الحياة!.
[1] - أصل هذا البحث نشر بعنوان كروية الأرض حقيقة علمية، في مجلة عالم الفلك التي صدرت بأبو ظبي، العدد الخامس، شباط (فبراير) 2000م .
[2] - العقيدة والمعرفة، ص (117).
[3] - دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، ص (140). دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1977م.
[4] - صفوة التفاسير، للصابوني، (3/515).
[5] - معجم البلدان، (1/17)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399هـ/1979م.
[6] - معجم البلدان، (1/18).
[7] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (17/334-335). (مصورة عن الطبعة الأولى).
[8] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (5/150).
[9] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (6/566).
[10] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (25/197).
[11] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (25/195-196).
[12] - مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي (25/196).
[13] - روح المعاني، (10/146)، دار الفكر، بيروت، (1398هـ/ 1978م).
وسوم: العدد 840