الفن بين متطلبات الدين وضرورات الإبداع
ومن الدوافع التي تجعلنا نخوض غمار هذا الأمر، هو الرغبة الملحة في إيضاح فقه الغناء والإنشاد، الذي يساعد الفقيه في جلاء طبيعة النصوص الأدبية الشعرية،التي تنزل عليها الأحكام، وشعورنا أن الناقد الأدبي الخبير بتحليل النصوص الشعرية المغناة، وهو من أهل التخصص الذي يضيء للفقيه الشرعي فهم النصوص الأدبية في واقعها التخصصي، لأنه يكشف كنه الموسيقى الفطرية ويعرف دور الموسيقى الإضافية في بناء الغناء، وما تضيفه إلى النص، ثم يأتي دور الفقيه الشرعي ليعطيها الصياغة الفقهية والضوابط اللازمة لإضفاء اللمسات الأخيرة، التي يراها مناسبة، يحكمه في ذلك تقوى الله وتحري مصلحة المسلمين، وفهم دنياهم بعيداً عن التشدد المنفر أو التنازل الذي يميع الأمور، وذلك من خلال الخضوع لقواعد الحياد العلمي، الذي يتجرد للبحث عن الحق، حماية لمقاصد الشرع من التحريف، وبذلك نؤكد أن على أهل الفقه ضرورة الاستنارة بأهل التخصص في إيضاح الأحكام الفقهية، كقاعدة عامة يخضع لها الفقهاء وهي قاعدة معروفة من قواعد فقهنا الإسلامي، وعلى الفقيه أن لا يستعجل في قراءة النصوص الشرعية وإصدار الأحكام، قبل أن يدرك أن لدى المتخصصين ما ينفع.
ولذلك نحن بحاجة إلى تحليل يعرفنا بهذا الفن ومكوناته، يبصرنا بمعرفة المواطن الخطرة وطرائق تصحيحها، أو التحكم بها ويكون ذلك من خلال التعرف على الطبقات المكونة للنص الغنائي، حتى نجمع بين متطلبات الدين وضرورات الفن، الذي ينضبط بأمر الله سبحانه وتعالى.
5- الفن في خدمة الأدب وإيصاله إلى الجمهور.
الإنشاد والغناء والموسيقى والمسرح والسينما والتلفاز وجميع فنون الأداء والإلقاء، كلها من الفنون التي تخدم الأدب وفنونه المختلفة (الشعر والقصة والمسرحية والرواية والخطبة.....) بشكل عام، لأنها تتفاعل معه وتحببه وتسوقه وتوصله إلى قطاعات واسعة من الجماهير المتذوقة، وتصنع من حوله حالة وهالة من الجذب والاهتمام والحب، لأن الجمهور بطبعه يحب جمال الأدب، وتجذبه حالة الطرب، والصوت الجميل والمعاني الجميلة، التي يصنعها الغناء في الإنشاد، من خلال مكونات هذا الفن المركب من عدة فنون (فن الشعر، وفن الصوت الجميل، وفن الموسيقى، وفن بلاغة اللغة) لتشكل فنا واحد مركبا منها جميعا اسمه: (فن الغناء والإنشاد) من خلال طبقاته الأربع: 1- طبقة موسيقى الشعر 2- طبقة الصوت الغنائي الجميل 3- طبقة الأصوات الموسيقية 4- طبقة اللغة والمعنى.
6- طبقات الإنشاد:
ومع أن الجمهور لا يرى هذه الطبقات لأول وهلة، إلا أنه يحس بها، وهنا يحسن بنا تفكيك نموذج النصوص المغناة، للتعرف على مكوناتها، تسهيلاً لفهمها ولإيضاح الفكرة التي تسعى إليها الدراسة من خلال ما أسميناه بطبقات نص الإنشاد:
1- الطبقة الأولى: طبقة الوزن الشعري (موسيقى الشعر):
وتشكل هذه الطبقة الأصل الفطري الداخلي في عمق النفس البشرية لفن الموسيقى، وعلى وزنها يتكئ الإنشاد والغناء، لأنها تمثل حالة التوتر والاستجابة، التي تحدث في الجهاز العصبي للإنسان، عند مواجهة الظروف والأحداث والتقلبات، التي تحدث في النفس أثناء ردود فعلها على معايشة الحياة، ومن خلال التفاعل الذي يحدث على شكل قمة وقاع، وبخاصة عند الإنسان المبدع، الذي كتب النص الشعري ورسم حركية هذا التوتر وحاله وانسيابه وتوزع هذه الانسياب، حيث تقوم موسيقى الشعر بضبطه من خلال الأوزان العروضية، وما يتبعها من الزحافات والعلل، التي تسجل هذا التوتر وحالته، ومع الزمن تمر السنون، وقد تذهب التجربة الشعرية لتلك القصيدة وقد تنسى، ولكن موسيقى الشعر حفظت هذه التجربة وخلدت التوتر الذي رافقها على مر العصور، وبذلك يستطيع القارئ أن يسترجع التوتر الذي رافقها رغم تباعد الزمان والمكان بينهما. ويتعاطف مع الشاعر وشعره، بفضل هذه الموسيقى التي سجلت هذا التوتر وخلدته، وموسيقى الشعر - كما قلنا سابقا – هي موقف فطري طبيعي من داخل النفس، جاء على شكل توتر، وهو استجابة لمحرك خارجي، فالخوف مثلاً هو موقف داخلي حركته حالة الشعور بوجود خطر خارجي، لأن الجهاز العصبي يتفاعل مع الأحداث الخارجية بتوتره ويرسم درجات هذا التوتر ارتفاعاً وتدرجاً وانخفاضاً، على شكل قمة وقاع في الرهب والرغب بالتوتر المناسب، فارتعاد الفرائص في حالة الخوف مثلاً، يصنع إيقاع الخوف، وانفراج الأسارير يصنع التوتر الذي يفرز إيقاع السرور، وعلم العروض (موسيقى الشعر) يسجل حركة التوتر والإيقاع ويرسمها بالقمة والقاع المناسب، كما يرسم جهاز تخطيط القلب حالته ونبضاته، ومن عجائب علم العروض أن يسجل لحظات الإبداع، ويحافظ على نقل حيويتها في قلب الشاعر من خلال أوزانه الدقيقة في التفاعيل والزحافات والعلل التي ترصد التعبيرات في التوتر الشعوري بدقة متناهية، ليحمي الإبداع من الضياع في زحمة الحياة وأحداثها، ويقف سدا في وجه النسيان والاندثار بفضل هذه الموازين الدقيقة.
2- الطبقة الثانية (طبقة الصوت الجميل)
ومع أن الصوت الجميل عندما ينشد النص أو يغنيه، هو صوت يأتي من خارج النص، إلا أنه يتماهي مع النص في أصواته ومبناه ومعناه، ويخضع للتفاعيل والزحافات والعلل التي تحكمه، حتى يصبح كأنه من داخله، وهو بهذا الصوت الجميل ينقل الوزن والإيقاع من حالة الكمون والاختباء ويحمله إلى أذن السامع ليتفاعل معه.
والسؤال المطروح هنا هو: ماذا يضيف صوت الإنشاد أو الغناء للوزن الشعري؟ والجواب هو أن الإنشاد والغناء يضيف الصوت الجميل للوزن الشعري ويوضحه ويزيده جمالا حين يستخرج موسيقى الشعر من عمق النص وداخله، ويحملها هذا حين يتفاعل مع معانيها ويحولها إلى صوت جميل مسموع، جمع بين (موسيقى الشعر والصوت الجميل) وكأن الغناء والإنشاد جاء فطرح النص بطريقة جميلة تجذب قلوب السامعين، وتحببهم في هذا النص الشعري، وترفع حالة التمتع والتذوق عند السامعين.
ويمكن إحداث ما يشابه الغناء والإنشاد في خدمة الشعر وإيصاله عن طريق فن آخر هو (فن الإلقاء) حيث يعطي قراءة الشعر والإيقاع نبرات صوتية تناسب المعنى، وتخدم موسيقى الشعر وتعرض جمالها أمام السامعين، وفي العصر الحديث أضيفت الموسيقي المرافقة لفن الإلقاء، لإضفاء الرونق والأجواء الجمالية بما يناسب معاني النص من خلال الصوت الذي يتمتع به الملقي.
وهذا معناه أن (موسيقى الشعر) تشكل الطبقة الأولى و (الصوت الجميل) يشكل الطبقة الثانية للإنشاد أو الغناء، وكلاهما حلال لا خلاف في حلهما بين علماء الأمة، فلا خلاف حول موسيقى الشعر الداخلية النابعة من توتر الجهاز العصبي في تفاعله مع حدث خارجي في لحظة الإبداع، ولا اعترض أحد من علماء الأمة على الطبقة الثانية، طبقة الصوت الجميل الذي أضافه الإنشاد والغناء الخالص المتقن، الذي تصنعه حالة الطرب والمتعة المنضبطة بالشرع، ويخدم الشعر ويحبب الناس فيه، ما دام خاليا من الآلات الموسيقية التي اعترض عليها عدد من علماء الأمة، بناء على ما فهموا من الدليل النقلي في الأحاديث الشريفة، وهو الأمر الذي نفاه علماء آخرون ضعفوا هذه الأحاديث، أو قيدوا فهمها بشروط معلومة ومحددة، تم ذكرها في الخلاصات الفقهية السابقة.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 841