لماذا هذا الصمت الغريب تجاه مشروع يمكن أن يقوّض "العقلية الشعرية" العراقية؟
قرأتُ اليوم (السبت – 31 آب – 2019 ) الحلقة الثالثة من سلسلة "المخدرات في العراق.. مناقشة مع أ. د قاسم حسين صالح" للباحث الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم التي نشرتها صحيفة المثقف الغرّاء. وكنتُ قد قرأتُ سابقاً سلسة "الراحل الدكتور علي الوردي في الميزان" و "ما هكذا نقدّم انتحار شباب العراق " للأستاذ عبد الرضا حمد جاسم وكتبتُ مقالة بعنوان "الساحة الثقافية العراقية تشهد انبثاق عقلية نقدية خطيرة" نُشرت في جريدة الزمان أولا ثم في مواقع أخرى منها صحيفة المثقف.
ما أودّ أن أطرحه أوّلأ هو هذا الصمت غير المُبرّر من قبل المعني الأول – وليس الأوحد – وهو الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح الاختصاصي المعروف بالطب النفسي ورئيس الجمعية النفسية العراقية وصاحب الحضور الثر المعروف في مجال الكتابة والنشاط العلمي. قد يقول قائل أن الأستاذ الدكتور قاسم ينتظر إكمال سلسلة المخدرات في العراق للأستاذ عبد الرضا كي يرد بصورة شاملة ، ولكنه لم يرد على سلسلة مشكلة الانتحار بين شباب العراق وقد اكتملت منذ مدة كافية. كما أنني اطلعتُ على امتناع الأستاذ الدكتور قاسم عن الرد على تعليقات الأستاذ عبد الرضا وعدم نشر بعض تعليقاته وتعليقات كتّاب وقرّاء آخرين في موقعه وهو ما ذكره الأستاذ عبد الرضا مُدعما بالشواهد في الحلقة الثانية من سلسلته "المخدرات في العراق". وهذا الموقف غريب جدا ولا يناسب سمعة الأخ الأستاذ الكتور قاسم الذي عرفنا عنه الروح العلمية والانفتاح المعرفي والسلوك الديمقراطي,
وعندما قلتُ أن الدكتور قاسم حسين صالح هو المعني الأول وليس الأوحد فلأن هناك جهات وطنية من مستويات مختلفة في وطننا معنية بما يقوم به الباحث الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم الذي يُواجَه جهده بصمت عجيب بل مُريب - عدا استثناءات قليلة - في حين أن بإمكاننا أن نحوّله – بتوفر الصدق المعرفي والغيرة العلمية – إلى "مشروع وطني" كبير وجذري يكون مفتاحا لتحوّل ثقافي هائل في مسيرة الثقافة العراقية يمتد ليتناول أسس العقلية العراقية ثم ينعكس حتى على الجوانب التعليمية والمناهج الدراسية وغيرها.
بعد الحلقة الثانية من سلسلة المخدرات في العراق كتبتُ رسالة إلى الأستاذ الباحث عبد الرضا حمد (في 26 آب 2019) لم ينشرها بفعل تواضعه العالي وسلوك العلماء القويم الذي يتمتع به. ويهمني هنا أن أنقل بعض ما قلته في تلك الرسالة بقدر تعلق الأمر بجوهر مقالتي هذه.
قلت للباحث الأستاذ عبد الرضا حمد : (إنّني إذا قرأتُ "ما وراء" خطابك في هذه السلسلة والسلسلة السابقة عن الانتحار فأستطيع القول إنك في الواقع تحذّر من امتداد "العقلية الشِعرية" العراقية – والعربية أيضا – إلى ميدان تداول الحقائق والمفاهيم العلمية. إن العقلية الشِعرية – وهذه من شروطها - الفضفاضة البلاغية الاستعارية "الشكلية" داء خطير حين تنتقل إلى ميدان عمل العالم وتحليله للظواهر وخصوصا حين تستولي على "لغته". وهذه العقلية الشِعرية حذّر منها العلامة الراحل علي الوردي في أول كتاب له وهو "خوارق اللاشعور" عام 1952.
قبل سنوات نشرتْ جريدة الصباح الغراء تحقيقا موسّعا مع عدد من المثقفين العراقيين حول حال الثقافة العراقية آنذاك ، فوجدتُ أن الإجابات كلها لم تطرح أولا : ما المقصود بالثقافة؟ ولهذا جاءت الإجابات كلها تدور حول الشعر والرواية .. إلخ ، وهذه - برغم أهميتها - لا تمثل مفهوم الثقافة كلّه. وقد يكون هذا دليلا على أن قسم لا يُستهان به من المثقفين العراقيين يفهمون الثقافة – وبالتالي دورهم الثقافي التنويري - وفق هذا الإطار.
الآن نقع في المصيدة نفسها حين نعتقد كعاملين وباحثين في المجال العلمي أنّ اللغة الشعرية باستطالاتها الفضفاضة واستعاراتها البلاغية و"شكليتها" .. بل وصخبها ، مناسبة للتعبير والبحث العلمي. والأسوأ أن نفكر في العلم بعقل الشاعر ونعبّر عن شؤونه بلغة الشعراء.
وأعتقد أن عاملا مهما في هذا المنحدر يكمن في فقدان التربية على طرائق التفكير "المنطقية" منذ الطفولة وخصوصا في مرحلة الدراسة الابتدائية. أكرّر: نحن بحاجة إلى مناهج فلسفة وعلم نفس في مدارسنا كما هو الحال في بعض البلدان العربية.
لكن ما نحتاج إلى تداركه بشكل سريع وجسور الآن هو "الرقابة" على الخطاب العلمي المتداول في العراق حالياً لخطورته ولأنّ إصلاح العلماء إصلاح أمّة. وكما يقول سيّدي علي بن أبي طالب عليه السلام أن (رأي العلماء (وخطابهم) إذا كان صحيحاً كان دواء ، فإن كان خاطئاً صار داء).
وهذا ما تقوم به أنتَ عبر جهدك المبارك هذا. أقولها بلا تردّد وأضيف صفة "الخطير" باستحقاق.
هل من الصعب على وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية والداخلية – وموضوعا الانتحار والمخدرات تمسهن جوهريا - أو الجمعية العراقية للعلوم النفسية" أو "دار الحكمة" بل حتى صحيفة طريق الشعب أو صحيفة المثقف أو مركز النور أو أيّ من المؤسسات الأخرى أن تعقد ندوة أو سلسلة من الندوات حول هذه السلاسل تدعوك مع مجموعة من الباحثين ومنهم الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح للنقاش حول هذه الأمور المهمة ونقلها عبر التلفاز. لا أجد أي صعوبة في ذلك سوى الروح المترددة التي تسم المثقف العراقي – والمواطن العراقي عموما – حين يصل الأمر إلى حدّ المبادرة والتنفيذ الفعلي بدون أمر يأتي من فوق. قد أكون مخطئا. لا أدري) (انتهى الاقتباس من رسالتي إلى الأستاذ غبد الرضا حمد جاسم).
يتذكر الكثير من الزملاء الذيم تابعوا "مشروعي" الذي طرحته منذ أكثر من ثلاثين عاما عبر مقالاتي ودراساتي وكتبي التي زادت على الـ 74 كتاباً أنني عملتُ وبقوة على تقويض الشعار العراقي الخطير والفطير الذي يقول "إنّ مغنية الحي لا تُطرب" ودعم ومساندة المحاولات والمشروعات التنويرية الثورية الجسور التي تبغي قلب الوقائع والمسلملت الخانقة الراكدة في واقعنا الثقافي ومنها – مؤخرا - محاولات الباحث الأستاذ عبد الرضا حمد جاسم في مشروعه المهم هذا الذي يتسم بالدقة والأناة والنظر الثاقب والتحليل العميق برغم ما يراه بعضنا من سلبيات وشوائب فيه لا تخلو منها حتى الكتب المقدّسة. لمَ لا نقرأه بصورة دقيقة ونردّ عليه ؟ لمَ لا نمنحه حقّه واستحقاقه سلبا أو إيجابا وهو يجتهد ونحن نكرر منذ قرون إن حتى المجتهد الخاطىء له حسنة حسب توجيه رسولنا العظيم؟
والله من وراء القصد.
وسوم: العدد 842