الاختلال بين الأخذ والعطاء أو بين الحق والواجب أمر غالب على تعامل معظم الناس في مختلف معاملاتهم
يد الإنسان حين تمتد يكون ذلك إما لتأخذ أو لتعطي . ولمّا كان الإنسان قتورا بطبعه كما جاء في قول الله عز وجل : (( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذن لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا )) ، فإنه يبادر بمد يده ليأخذ، ولكنه يتلكأ إذا مدّها ليعطي ، وهو ما يفسر الاختلال بين سلوك الأخذ وسلوك العطاء لدى الإنسان ، وقلمّا يحصل التوازن بينهما .
والإنسان عموما ملحاح عندما يتعلق الأمر بالأخذ ، ولكنه متهاون عندما يتعلق الأمر بالعطاء ، وهذا ما سماه الله عز وجل تطفيفا فقال : (( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )) ،وكلمة ويل الدالة على وعيد شديد تعكس مدى مقت الله عز وجل للذين يستوفون حين يأخذون ، ويخسرون حين يعطون ، وهو سلوك منحط يدل على دناءة .
ويكاد سلوك الأخذ والعطاء يشمل كل المعاملات البشرية بحكم طبيعة البشر الاجتماعية التي تسخر بعضهم لبعض كما جاء في قول الله عز وجل : (( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض ليتخذ بعضهم بعضا سخريا )) ، وتسخير الناس بعضهم بعضا يقوم على أساس التوازن بين الأخذ والعطاء أوبين الحق والواجب .
ويمكن أن نعدد الشيء الكثير من أنواع المعاملات المادية والمعنوية التي يحكمها الأخذ والعطاء دون أن نستطيع عدّها ، لهذا سنقتصر على بعضها مادية ومعنوية لبيان كيف يحصل الاختلال بين الأخذ والعطاء فيها ، وهي كالآتي :
ـ المعاملات التجارية المادية : وهي الأشهر في حياة الناس ، ولا تخلو هذه المعاملات بين أفراد أو بين جماعات ودول من خلاف مرده الاختلال بين الأخذ والعطاء، لأن الطرفين المتعاملين تجاريا كل واحد منهم يأخذ ويعطي مع الحرص على أن ترجح عنده كفة الأخذ بكفة العطاء ، ولهذا يخوضان في المساومة أو المفاوضة في البيوع للحصول على أقل قدر ممكن من التوازن بين الأخذ والعطاء دفعا للشعور بالغبن . وغالبا ما يشكو أحد الطرفين من غبن مرده قلة الأخذ مقابل كثرة العطاء .وفي الوقت الذي يشكو فيه الطرف المغبون، ينتشي الطرف الآخر بصفقته الرابحة التي تكون فيها كفة الأخذ راجحة بكفة العطاء .
ولا يوجد ظلم أعظم من الظلم الذي يقع في هذه المعاملات التجارية بسبب بخس يكون من بعض المتعاملين نظرا للاختلال بين الأخذ والعطاء .
ـ معاملات الأعمال والأشغال أو الوظائف والمهام : وهي تجمع بين ما يكون مادة أو جهدا فكريا أو جهدا عضليا ، وهي كثيرة كثرة المعاملات التجارية مختل فيها الأخذ والعطاء أيضا ، ذلك أن من يشغّل أو يوظّف أو يكلّف يرى دائما أن كفة عطائه أو جهده ترجح بكفة أخذه أو أجره . ولا يوجد عامل ولا موظف ولا مستخدم لا يشكو من حيف من يعطيه ولا يأخذ هو منه قدر ما يستحق . وكم هي الخصومات بين أصحاب هذا النوع من المعاملات وملفاتها في المحاكم كثيرة ، وأمرها يوم القيامة أشد خطورة لأن محكمة الله عز وجل لا جور فيها وتقيس بالقسطاس المستقيم لقول الله عز وجل : (( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )). ويتراشق المشغلون والمشغلون ـ بكسر الغين وفتحها ـ التهم فيما بينهم بخصوص ما أعطى كل واحد منهم وما أخذ . وقد يبخس هذا الطرف ذاك ، فلا يقدر حق التقدير جهدا أو وقتا أو سعيا أو أجرا ، ويرى أن ما أخذه دون ما أعطاه بكثير.
ـ معاملات الأزواج : وهي معنوية وإن كانت لا تخلو من جوانب مادية ، وفيها نزاع كبير بين الأزواج بحكم طبيعة علاقة الزواج . وغالبا ما تبدأ هذه العلاقة وهي تحت تأثير العاطفة الجياشة التي تجعل عين الزوج أوعين الزوجة منصرفة تماما عن كل عيب محتمل في أحدهما . ومع مرور الأيام وفتور العاطفة الجياشة والمندفعة ،علما بأن مذاق العسل لا يدوم طويلا، فيبدو الشعور من هذا الطرف أو ذاك بغبن قد يبدأ صغيرا ثم يكبر مع مرور الأيام ، وينتهي الأمر إلى شكوى وعتاب واتهام وخصام ،وربما ب إلى فراق أيضا ، ويكون السبب هو شعور كلا الطرفين بأنه لا يأخذ بقدر ما يعطي ، وأن ما يعطيه أكبر بكثير مما يأخذه، فيرى الزوج أن سعيه خارج البيت لا يقاس بشغل الزوجة في البيت وتربيتها للأبناء ، بينما ترى الزوجة أن ذلك أكبر بأضعاف مضاعفة من سعي زوجها خارج البيت ، وتشكو من كونه لا يساعدها حين يعود إلى البيت ، ويرى هو أن ذلك حمل مضاف ينقض ظهره . وإن كانت الزوجة تعمل خارج البيت ، وداخله ، فإنها تكون أكثر شكوى وأكثر تظلما . ويغيب في الغالب تقدير الجهود بين الزوجين التقدير الصحيح والموضوعي بسبب اختلاف معايير التقدير بينهما ، وبسبب طبيعة كل واحد منهما النفسية والعقلية مما يجعل الموضوعية غائبة أو منعدمة في التقدير ، ويكون حينئذ العدل في الحكم من قبيل المستحيل . وقد يبدو عطاء أحد الزوجين بسيطا للغاية كأن ينال أحدهما قسطا قليلا من الراحة على حساب انهماك الآخر في عمل شاق ، فيرى المستريح منهما أن ما ناله من راحة أمر بسيط ،لكن من كان يشقى ساعة راحته لا يرى رأيه بل يرى راحته شيئا كبيرا إذا قيس بتعبه ، ويكون الأخذ بالنسبة إليه فوق العطاء . وعلى هذا تقاس أمور كثيرة تكون بين الأزواج . وأغلب النزاعات بين الأزواج مردها الخلاف حول الاختلال بين الأخذ والعطاء أو الحق والواجب.
وتكاد كل حالات الحياة المتوترة بين الأزواجأ وحالات الطلاق تعود إلى هذا الاختلال .
ـ العلاقات العائلية وعلاقات الجوار والصداقة والزمالة والعمل...: وهي أيضا معنوية لا تخلو مما هو مادي . وأكثر هذه العلاقات توترا بسبب اختلال الأخذ والعطاء علاقة الآباء والأبناء ، فقد يرى الأبناء تقصيرا من الآباء في حقهم وهم صغار مقابل ما يقومون به من واجبات ، كما قد يرى الآباء أنهم لم ينالوا مقابل ما قدموه لأبنائهم خصوصا إذا بلغوا الكبر وأعوزتهم العناية والرعاية . وهذه العلاقة قد ضبطها الله عز وجل ضبطا مختلفا عن ضبط باقي العلاقات ، فجعل للأبناء حقوقا على الآباء وهم صغار ، وجعل للآباء حقوقا على الأبناء وهم كبار وذلك في قوله تعالى : (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )) ، ففي هذا النص القرآني يزول الاختلال الموجود بين الأخذ والعطاء حيث يستفيد الأبناء من التربية وهم صغار ، ويستفيد الآباء من البر وهم كبار ، ولكن لا يمكن أن يرقى عطاء الأبناء إلى عطاء الآباء مهما بلغ حجمه أو قدره في معيار الله عز وجل، لهذا قرن سبحانه بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين .ومن المؤسف غاية الأسف أن يبلغ الأمر ببعض الآباء رفع شكاوى أمام قضاة الدنيا بسبب إهمال الأبناء لهم، الشيء الذي يعني أنهم لم يأخذوا على قدر ما أعطوا ، وتبقى المصيبة الكبرى شكوى هؤلاء أمام قاضي السماء في الآخرة . ويشكو كثير من الأبناء من أنهم أعطوا آبائهم أكثر مما أخذوا ، وهو سوء تقدير منهم لأنهم يزنون ما أعطوا وما أخذوا بميزان غير ميزان الله عز وجل ، ومتى كان الحمل والرضاعة والسهر والتعب... وما لا يقدر بثمن من عطاء الآباء يقارن بما يقدمه لهم الأبناء بما له ثمن ؟
وإلى جانب هذه العلاقة توجد علاقات القرابة الأخرى حيث يشكو الأقارب بعضهم من جور بعض فيما يأخذون مقابل ما يعطون ، وقد يفضي ذلك إلى خصام وقطيعة أو قطع رحم . ويوجد دائما سوء تقدير قيمة الأخذ و قيمة العطاء ، فقد يفوق عطاء معنوي العطاء المادي أضعافا مضاعفة ، ولكن يبخس بسبب سوء التقدير .
ودون علاقة الأقارب حساسية علاقة الجوار ، ولا تخلو غالبا من شكاوى بعض الجيران بسبب اختلال الأخذ والعطاء بينهم ، ومرد ذلك أيضا سوء تقدير المعنوي والمادي في الأخذ والعطاء .
ومن العلاقات التي يختل فيها الأخذ والعطاء أيضا علاقة الصداقة ، وهي العلاقة التي غالبا ما يحترز فيها الأصدقاء من هذا الاختلال ، ومع ذلك يقع لسوء تقدير أيضا حيث قد يستهان بأمر عطاء يكون فوق الأخذ ، فيصيب علاقة الصداقة فتور قد يتحول إلى قطيعة وربما إلى عداوة أيضا .
ودون علاقة الصداقة علاقة الزمالة ، وهي التي تكثر فيها المحاسبة بين الزملاء بخصوص اختلال الأخذ والعطاء ، وربما قد يتعمد غالبا في هذه العلاقة هذا الاختلال، فيكون أخذ بعضهم أكثر مما يعطوا ، وتنشأ بينهم الحزازات والصراعات، وقد يفضي ذلك إلى ما هو أكبر من ذلك لسوء تقدير وقياس الأخذ والعطاء .
وأخيرا نقول إن ما ذكرناه من اختلال الأخذ والعطاء في مختلف العلاقات التي مر ذكرها لا يمكن تعميمه دون استثناءات ،لأنه لا تخلو تلك العلاقات من وجود من يعطي بقدر ما يأخذ ، بل قد يحتقر الكثير الذي يعطيه أمام القليل الذي يأخذه ، ويرى هذا الأخير فوق ما يعطيه مع أنه ليس كذلك . ونأمل أن تحصل مراجعة الجميع مراجعة موضوعية لتقدير الأخذ والعطاء التقدير الأقرب للتقوى، لأن في ذلك صلاح العلاقات التي بها هي عماد المحبة الحقيقية والصادقة .
وسوم: العدد 853