تجريم الـ BDS: أحدث «هدايا» ترامب إلى نفسه!
في تعليق بعنوان «لماذا ندعم حملة المقاطعة»، يعود إلى العام 2009، وقّعه فريق فيلم «البحث عن إريك»، المخرج كين لوش والمنتجة ربيكا أوبريان وكاتب السيناريو بول لافيرتي؛ أوضح الثلاثة أسبابهم في سحب الفيلم من مهرجان ملبورن السينمائي الدولي لذلك العام، بعد اكتشافهم أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي تساهم في تمويل أنشطة المهرجان. وجاء التالي في إحدى فقرات التعليق، الذي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية يومذاك، وبعد أن استعرض النصّ سلسلة انتهاكات الاحتلال لقرارات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني العالمية والهيئات القضائية الدولية: «بالنظر إلى فشل القانون الدولي، وحصانة دولة إسرائيل، نؤمن انه لا بديل سوى أن يبذل مواطنون عاديون جهودهم لملء الفراغ».
أسماء أخرى اتخذت الموقف ذاته، قبل هؤلاء أو بعدهم، تضمّ ــ في حقول الثقافة والفنون، تحديداً ــ أمثال أليس ووكر، ستيفان هيسيل، جان ـ لوك غودار، جون بيرغر، أرونداتي روي، إيان بانكس، جوديث باتلر، جونوت دياز، نايومي كلاين، أنجيلا دايفس، ميرا نير، مايك لي، هوبي غولدبيرغ، إيما تومبسون، مورغان فريمان، فانيسا بارادي، بنيلوبي كروز، روجر ووترز، وسواهم كثر؛ ممّن لا ينتمي بعضهم إلى اليهودية بالولادة فقط، بل هم في عداد الناجين من الهولوكوست أيضاً.
وضمن سلسلة «الهدايا» التي يواصل الرئيس الأمريكي تقديمها إلى دولة الاحتلال، وتظلّ في نهاية المطاف بمثابة أعطيات إلى نفسه عملياً، في خدمة ستراتيجيات إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، وقّع دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بقطع التمويل الفيدرالي عن عدد من الكليات والجامعات الأمريكية، التي تُتهم بعدم مكافحة العداء للسامية؛ أو، بالأحرى، تلك التي لا تضع القيود على ممارسة الطلاب حقوقهم المدنية في الانضمام إلى، أو حتى مجرد تأييد، حركة مقاطعة دولة الاحتلال، الـBDS. وفي منطوق هذا الأمر التنفيذي، أو حيثياته الجلية أو الخافية كما بشّر بها صاحب فكرة القانون، صهر الرئيس جاريد كوشنر؛ سوف يُجرّم كلّ مناصر لحركة المقاطعة، وقد يكون على رأسهم أمثال الأسقف دزموند توتو والعالم ستيفن هوكنغ والرياضي كريستيانو رونالدو. وفي هذا يتولى ترامب مهمة استكمال القرار 246، لشهر تموز (يوليو) 2019، والذي صدر عن مجلس النوّاب الأمريكي ونصّ على معارضة حركة المقاطعة، انطلاقاً من أنّ دولة الاحتلال «ديمقراطية ويهودية»!
وفي تموز، 2005، صدر الإعلان الأوّل للحركة، وجاء فيه: «لقد مرّ عام على صدور القرار التاريخي لمحكمة العدل الدولية، والذي اعتبر أن قيام اسرائيل ببناء الجدار على اﻷرض الفلسطينية المحتلة عمل غير قانوني. ومع هذا، فإن إسرائيل مستمرة في بناء جدارها الكولونيالي متجاهلة قرار المحكمة المذكور. ثمانية وثلاثون عاماً من الاحتلال اﻹسرائيلي للضفة الغربية (ومن ضمنها القدس الشرقية)، قطاع غزة وهضبة الجولان، وإسرائيل مستمرة في توسيع مستعمراتها. كما أنها قامت بضم القدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية من طرف واحد، وضمت عملياً ـ بسياسة الأمر الواقع ـ أجزاء واسعة من أراضي الضفة الغربية بواسطة الجدار. كما تخطط إسرائيل، تحت غطاء خطة إعادة الانتشار من غزة، لبناء وتوسيع مستعمراتها في الضفة الغربية».
هذا واقع عياني يقتضي، كما يتابع الإعلان الأوّل، مناشدة منظمات المجتمع المدني في العالم وكلّ أصحاب الضمائر الحية بفرض مقاطعة واسعة لإسرائيل، وتطبيق سحب الاستثمارات منها، في خطوات مشابهة لتلك المطبقة ضد جنوب أفريقيا خلال حقبة الأبارثهايد. كما ندعوكم لممارسة الضغوط على حكوماتكم من أجل فرض المقاطعة والعقوبات على إسرائيل. ونتوجه إلى أصحاب الضمائر في المجتمع اﻹسرائيلي لدعم هذا النداء من أجل تحقيق العدالة والسلام الحقيقي». وسرعان ما حققت الحركة نجاحات كبرى وحاسمة، فانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 46٪ سنة 2014، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة؛ وأشارت مؤسسة راند الأمريكية إلى أنّ الحركة ألحقت خسارة بإجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي تتراوح بين 28 إلى 56 مليار دولار خلال عشر سنوات.
ثمة، استطراداً، الكثير من الأسباب التي تدعو أصدقاء دولة الاحتلال ومجموعات الضغط الإسرائيلية، في الولايات المتحدة خصوصاً بالطبع، ليس إلى تأثيم الـBDS فقط على مستوى الرأي العام والإعلام فقط، بل كذلك تجريمها قانونياً حتى إذا توجّب أن يمرّ هذا عبر الدوس على حقوق مدنية مبدئية كفلها الدستور الأمريكي، في اعتناق الرأي والتعبير عنه أساساً. ولم يكن غريباً أنّ القرار 246 صوّت لصالحه 209، ورفضه 16 وامتنع 5 في صفوف الديمقراطيين؛ مقابل 189 ورافض واحد وامتناع 7 في صفوف الجمهوريين؛ وتلك نتيجة تفصح عن ذاتها، خاصة حين تتأسس الحيثية الأولى في القرار على تناقض صارخ بين الصفة «الديمقراطية» لدولة الاحتلال، وأنها في الآن ذاته يهودية بما يعني عدم اعتمادها على قاعدة المساواة بين أبناء الديانات الأخرى.
ليس غريباً كذلك، وإنْ انطوى على مستوى صفيق من تجاهل الحقائق، أنّ ترامب ينسب مشاعر المعاداة للسامية، وأفعال كراهية اليهود بصفة إجمالية، إلى حركة المقاطعة في صفوف طلاب الجامعات؛ متناسياً أنّ أوج ما يزعم مكافحته لا ينتشر في أوساط أخرى أكثر من انتشاره في قلب جمهور ترامب نفسه، وخاصة جماعات التفوّق العرقي الأبيض. ولقد ذكّرته افتتاحية صحيفة «نيويورك تايمز»، التي اتخذت وجهة نقدية ضدّ الأمر التنفيذي الأخير، بأنّ جمهور مدينة شارلوتسفيل (الذين امتدحهم ترامب!) أطلق هتافات تقول «لن يحلّ اليهود محلّنا»؛ وأنّ المسلّح الذي أطلق النار على حفل ديني يهودي في بواوي، كاليفورنيا، استلهم أدولف هتلر علانية؛ وأنّ قاتل 11 من الأبرياء، في مجزرة بتسبورغ، وضع على مواقع التواصل الاجتماعي عبارات صريحة في عدائها للسامية؛ هذا عدا عن تصريحات ترامب نفسه مؤخراً، أمام «المجلس الإسرائيلي الأمريكي» والتي أعادت تكرار تنميطات شائعة ذات صفة معادية للسامية أثارت سخط الكثيرين في مجالس الجاليات اليهودية ذاتها. «التهديد الأكبر لليهود الأمريكيين يتجاوز طلاب الجامعات الذين ينتقدون السياسة الإسرائيلية. والعداء للسامية في وجهته العنيفة يتخمّر بصفة جوهرية لدى القومويين البيض واليمين المتشدد»، تستخلص افتتاحية الصحيفة.
ومَن الذي سوف يصفّق للأمر التنفيذي هذا، قبل «الدماغ» الذي كان وراء حثّ الرئيس على توقيعه، أي صهره كوشنر الذي كتب في امتداح ترامب: «بوصفي أحد أحفاد الناجين من الهولوكوست، أفهم فظاعات العداء للسامية، ولست اليوم إلا أكثر فخاراً بسياسة الرئيس ترامب الجديدة». بالطبع، ولكن… أهي سياسة «جديدة» حقاً، بالقياس على «هدايا» ترامب السابقة، ليس لدولة الاحتلال أوّلاً، بل لرئيس حكومتها بنيامين نتنياهو شخصياً، وعلى سبيل مساندته في دورتين لانتخابات الكنيست لاقى فيهما الفشل؟ ماذا عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بسيادة الاحتلال على هضبة الجولان المحتلة، وتنزيه المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية عن انتهاك القانون الدولي، أو قبل هذه وتلك قطع المساعدات أو تخفيضها عن الأونروا، وإغلاق المكتب التمثيلي لمنظمة التحرير في واشنطن؟ وماذا، في نهاية المطاف، عن كون هذه الهدايا مقدّمة من ترامب إلى… ترامب، بالأصالة عن نفسه؟
وإذْ يحرص كوشنر على ردّ مرجعية الأمر التنفيذي إلى اللغة التي اعتُمدت سنة 2016 من جانب «التحالف الدولي لاستذكار الهولوكوست»، بصدد تعريف العداء للسامية؛ فإنه يستغفل العقول في الواقع حين يتناسى، عن سابق قصد، أنّ كنيث ستيرن المشارك الأوّل في صياغة ذلك التعريف كتب يحثّ على عدم تطبيقه في ميادين التعليم العالي، لأنه يتناقض مع روحية البحث ويخنق السجال العلمي. وفي الأصل، لماذا يتوجب على أمثال كين لوش ودزموند توتو وستيفن هوكنغ وكريستيانو رونالدو شراء بضائع المستوطنات، وتجميل وجه الاحتلال البغيض، وامتداح «دولة اليهود»… كرمى لأعين ترامب وصهره والحاشية!
وسوم: العدد 855