من وحي الذكرى
حضرت بالأمس حفلة تقليدية لذكرى المولد النبوي واستمعت فيها إلى القصة، وإلى الأناشيد، فكان كل ما تجمع لديّ من ذلك ألفاظاً شعرية، تتألف من العطور والزهور، والأغاريد والطيور، ثم ذكر النسب الكريم، وما إلى ذلك من صفات شخصية وجسدية للرسول العظيم..
وسمعت بعض الإذاعات في هذه المناسبة المباركة، فوجدت فيها بعض الجدة، وهي جدة يمكن تلخيصها بكلمة صغيرة: إنها عرض لبعض الأمجاد القومية التي نشأت في أثر الرسالة المحمدية..
وهأنذا الآن أقف بين النتيجتين متأملاً مفكراً، فلا أعثر على الصورة الصحيحة، التي يجب أن يخرج بها الإنسان إثر استعراض هذه الذكرى!
فالحفلات التقليدية تدور حول موضوع الذكرى دون أن تلمس حقيقة فتكتفي بالألفاظ الشعرية المنمقة، وكذلك الأمر في الحفلات الجديدة، فهي أيضاً تدور بدورها حول أشياء لا تمس حقيقة الذكرى في الكثير من أعراضها. ومردّ الأمر في الحفلات أنها لا تزال صدى مكرراً لعصور الانحطاط التي أنست جوهر الرسالة الإسلامية فوقفوا عند قشورها، وأن المجددين - في الحفلات الحديثة - ينظرون إلى شخص من وراء نظارات أجنبية صرف، لا ترى من الذكرى غير أنها المادي وحده، لذلك تكتفي من الموضوع بالكلام على النواحي القومية، وما إلى ذلك من ذكريات الأمجاد والفتوح... كأنما تريد من ذلك أن تقيم الدليل على عبقرية الرسول العربي صلى الله عليه وسلم، التي استطاعت أن تضيف إلى التاريخ الإنساني كل هذه الأحداث..
أما مبادئ الرسول، وأما تعاليم الرسول، وأما رسالة الرسول، وما فيها من أسرار السماء والهداية الربانية فذلك بعيد عن تفكير المقلدين والمجددين جميعاً!
ولعمري إن الناس ما داموا بعيدين عن إدراك هذه الحقيقة، فسيظلون يدورون في حلقة مفرغة لا تنتهي إلى خير..
ومن أجل أن نحيط علماً بهذه الحقيقة علينا أن نحدد مفهومنا العقلي من الرسالة الإسلامية، ذلك لأن شخصية محمد صلى الله وسلم لا تفهم إلا على ضوء هذا التحديد، ويوم نستطيع أن ندرك هذا الواقع ثم نجهر به للناس، يومئذٍ يحق لنا القول: إننا حسن الاحتفال حقاً بذكرى مولد محمد.
إن شخصية محمد لم تستمد خصائص عظمتها من نسبه ولا من بيئته، ولا من عبقريته الخاصة، وإن تكن هذه أشياء لا يستغني عنها الدارس لمهمة الرسول العربي، ولكن السر الحقيقي في عظمة هذا الإنسان الممتاز، هو أن الله اختاره لهداية القطيع الإنساني الضال عن طريق الحق.. ثم زوده من الصفات العقلية والنفسية بالقدر العظيم الذي يحقق تنفيذ هذه المهمة العظمى.
لقد أغرق الناس في المادية حتى أوشكوا أن ينسوا حكمة الله في تكوين هذا الجنس الإنساني الذي اختارته العناية الربانية لعمران الأرض، واستخدام طاقاتها، فحسبوا أن العظمة الحقة موقوفة على القدرة الشخصية، التي بها يستطيع الإنسان أن يقود الجماعات، وينشر الحضارات. وقد فاتهم أن القدرة الشخصية مهما تبلغ من القوة، تظل عاجزة عن هداية الإنسان إلى الحقيقة التي يجب أن يسخر في سبيلها كل قوته.. وذلك من أجل أن تأخذ الحياة الإنسانية اتجاهها الأمثل نحو السعادة العامة..
ومثلاً واحداً نضربه على ذلك: هو أن فلسفة الإنسان على كثرة مظاهرها، لم تستطع أن تخط للجماعة الإنسانية مذهباً واحداً، يمكن أن تجتمع عليه البشرية في اطمئنان وإيمان، بينما نرى النبوات الربانية وحدها هي التي استطاعت أن تسيطر على وجدان الإنسانية فتسوقها إلى غاية موحدة، راضية مختارة..
هذه قاعدة اجتماعية لا يؤثر عليها الشذوذ الفردي، الذي يتراءى بين الحين والحين، في تمرد بعض الأفراد أو الجماعات على حقيقتها المسلمة عندما يحاولون التنكر للرسالات السماوية، ليقيموا بدلاً منها مبادئ فلسفية من صنع الأرض..
أجل.. على ضوء هذا القانون الرباني، يجب أن ننظر إلى شخصية الرسول العربي الأمي، وبذلك وحده نتصل مباشرة بالمعنى الأسمى لميلاده.. فنرى أنه ليس ميلاد شخص ولكنه ميلاد دعوة.. ميلاد رسالة.. ميلاد نبوة..
من العبث أن نتعرف شخصية محمد صلى الله عليه وسلم عندما ننظر إليه في منعزل عن صفته النبوية، إن محمداً لم يقل عن نفسه إنه بطل وعظيم وعبقري، ولكنه عرف هذه النفس في تواضع فقال: «أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».. ثم لخص حقيقة هذه النفس بقوله: «إني رسول الله إليكم وإلى الناس كافة» وكذلك عرفه ربه بقوله الحق: ويا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً..
فمحمد صلى الله عليه وسلم سراج أضاءه الله لهداية الإنسانية كافة، وجدير بنور هذا السراج أن يخرج القطيع البشري من الظلام إلى النور، لأنه ليس من صنع الذكاء الأرضي، ولكنه شعلة من قبس السماء..
ولقد أدرك المؤمنون الأولون هذه الحقيقة، فباعوا نفسوهم لها ووقفوا وجودهم عليها، ثم لم يرضوا أن يحتكروا هذه السعادة لأنفسهم وحدها فاندفعوا ينشرونها في أكناف الأرض، ومضت الأرض تنطوي تحت أقدامهم في سرعة معجزة حتى ركزوا ألويتهم في كل مكان، وفي أقصر زمان...
وها هو ذا أحد هؤلاء المؤمنين، يلخص مفهومه لهذه الرسالة في كلمات بسيطة يصرخ بها في سمع (رستم) قائد فارس عندما سأله عن هدف العرب من حروبهم فقال: «هدفنا أن نخرج عباد الله من عبادة الناس إلى عبادة الله وحده...» فكان في هذه الكلمات القليلة خلاصة وافية لمعاني الرسالة الإسلامية.. إنها رسالة التحرير للعودة بالإنسانية الحائرة إلى نور ربها وإلى حريتها الأصلية..
ولقد ضل كثير من الناس فزعموا أن الفتح الإسلامي لم يكن إلا نتيجة لعوامل اقتصادية لا غرض لها من دين أو ورع.. ولا نزال مع الأسف نسمع مثل هذا القول، يتبجح بترديده بعض المقلدين لأعداء الاسلام، وحسبنا أن نسمع رد المؤمنين الأولين على هذه المزاعم لنقف على مفهوم الرسالة الحق في قلوبهم..
ها هو ذا عبادة بن الصامت يدخل على المقوقس في وفد من جيش عمرو بن العاص، فيعرض المقوقس عليهم المال لقاء رجوعهم عن مملكته.. فبماذا يجيب عبادة على هذه الرشوة؟ إنه يتبسم ضاحكاً من العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، ثم يقول لها في أناة وإيمان: «أبالدنيا تغرينا؟ ... والله ما خرجنا من بيوتنا إلا ونحن ندعو الله ألا يعيدنا إليها، وأن يكتب لنا الشهادة في سبيل دعوته..»
هكذا فهم المؤمنون الأولون شخصية محمد ورسالة محمد، فهم إذا وقروه فإنما يوقرون دعوته، وإذ يندفعون لنشرها إنما يفعلون ذلك بدافع الإيمان الراسخ بأنهم ينشرون كلمة الله ويحملون رسالته، لتحرير عباد الله من ظلم الطغاة، وتعسف البغاة، الذين اتخذوا عباد الله خولاً وأموالهم دولاً..
وبعد فهذا ما أفهمه من ذكرى مولد الرسول.. إنه مولد الدعوة إلى الله من جديد.. إنه مولد الحرية التي قيدها الظالمون..
مولد النور الذي لا يزال ينتظره الحائرون.. ولعل أناساً يحتفلون بهذه الذكرى، وهم حرب على معانيها، ومعول لتحطيم مباديها، وهم بذلك يهدمون أنفسهم وإنسانيتهم وما يشعرون..
إن عالم اليوم كعالم الأمس، لا يبرح في قيود العبودية: عبودية الشهوات، وعبودية الطغاة، وإن اختلفت مظاهر هذه العبودية بين الأمس واليوم.. وهو لذلك أحوج ما يكون إلى الاستضاءة بنور صاحب هذه الذكرى، فلنحمل إليه من جديد تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم، ولنفهمه في حكمة رسالة محمد.. وبذلك وحده نعطي هذه الذكرى التقدير الذي تستحقه.
ولعمري.. لقد آن للعرب اليوم، وقد أخفقت تجاربهم النظرية جميعاً، أن يعلموا أن ليس للعروبة الحقة من رسالة سوى رسالة محمد، وأنهم حملة هذا المشعل إلى العالم كله، ألقاها الله في أيديهم ليكونوا أوصياءه على الأرض، وشهداءه على الناس: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.
ولئن اقتصر اليوم الاحتفال بمولد الرسول العربي، على بعض الإنسانية دون بعض، فقد يأتي يوم تعرف فيه الإنسانية كلها حقيقة محمد، فتجمع على الاحتفال بذكراه كمنقذ للبشرية جميعها.. ويومئذٍ تشرق الأرض بنور ربها.. ويومئذ يفرح المؤمنون..
وسوم: العدد 859