كورونا في مملكة بوريس باشا الجزّار: حيث المواطن رقم، وكبير السن عبء
لا صوت يعلو فوق صوت جائحة الكورونا هذه الأيّام. وتلفزيونات بريطانيا وإعلامها – كما معظم الإعلام العالمي – منحت شؤون الفيروس المتطوّر الجديد مساحات إضافيّة وتغطيات متلاحقة على حساب البرمجات الاعتيادية.
ولم يجد ترامب الصغير أو بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطانيّ – المشهور باختفاءاته الكثيرة لدرجة أن زعيم المعارضة البرلمانيّة وصفه بأنه رئيس وزراء بدوام جزئي – لم يجد بداً من الظّهور بشكل مكثّف أمام الإعلام ليدير من وراء الشاشة مواجهة المملكة المتحدّة طاعون القرن الحادي والعشرين.
استراتيجيّة اللااستراتيجيا:
خيار أن لا تفعل شيئاً
جونسون – المنتشي من انتصاره الانتخابيّ الأخير، الذي منحه سلطة شبه تامة كملك متوّج لإدارة البلاد لخمس سنوات، وربما لعشر مقبلة – دشّن حربه الدون كيشوتيّة الطابع في مؤتمر صحافي استدعى فيه إلى جواره كبار موظفي الدولة لشؤون العلوم ومواجهة الأوبئة، ووقف بينهم، كما جنرالٍ يعلن حرباً.
ومن المعروف أنه معجب كثيرا بشخصية ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالميّة الثانية، وقد ألّف كتاباً عنه اعتبره أعظم بريطانيّ في التاريخ. ولذا فهو بدا وكأنّه يتقمّص شخص الراحل، بينما يقدّم استراتيجيّة مملكته المستقلّة حديثاً عن بروكسل.
الاستراتيجيّة المطروحة – وصفها كثيرون لا سيّما خارج بريطانيا – بسياسة مصارحة مع الشعب بالحقائق: إن الوباء قدر لا يمكن دفعه، ورهان الحكومة هو على تأخير انتشاره عدّة أسابيع تكون بعدها مؤسسة الصحّة الوطنيّة أقدر على التعامل مع الأزمة.
خلاصة تلك اللا استراتيجيّة كانت نصيحة الملك جونسون للمواطنين بتوديع أحبائهم – لا سيّما كبار السنّ والمرضى والضعفاء – استعداداً للفراق المؤكد.
في كل بساطة، فإن جونسون كان يخبر البريطانيين أن عليهم الاعتماد على أنفسهم في مواجهة كورونا، وأن الحكومة ليس لديها الكثير لتفعله من أجلهم. وحتى سياسة تأجيل انتشار الوباء بدت مثقوبة نتيجة استمرار التدريس والنقل العام وحركة الطيران ودوام مؤسسات الحكومة والأنشطة العامة، بما فيها المهرجانات الموسيقيّة، وكأن شيئاً لا يحدث في العالم من حول الجزيرة التائهة بين فرنسا وإيرلندا. وبدا أن المطلوب لتنفيذ تلك الاستراتيجيّة هو مجرّد غسل الأيادي، والانعزال الطوعيّ عند الشعور بالأعراض وعدم الاتصال برقم مؤسسة الصحة العامة سوى إن بقيت على قيد الحياة بعد سبعة أيّام من العزل، وبعدها سنعطيك بعض التعليمات – عن بعد – لقضاء سبعة أيّام أخرى لعل وعسى ربّك يمنحك فرصة جديدة في الحياة.
إنعدام ثقة الجمهور البريطانيّ بخطة الحرب الجونسونيّة هذه بدت واضحة من تقاطر المواطنين لشراء كميّات خرافيّة من المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة أفرغت رفوف المتاجر والصيدليات من البضائع بشكل غير مسبوق في ذاكرة بريطانيا السبعين سنة الأخيرة، مما اضطر تلك المتاجر إلى فرض قيود على كميّات الشراء، واستدعاء الشرطة أحياناً للتعامل مع حوادث عنف بين حشود المشترين داخل المحلات، فيما بدأ العديد من كوادر التعليم وطلبة المدارس والجامعات بالتغيّب، وسارعت مؤسسات خاصة إلى إلغاء أنشطتها بما فيها معرض لندن السنوي للكتاب – الذي لم يتوقف قط منذ الستينيات.
أمّا على مواقع التواصل الاجتماعي فلم يكد جونسون ينهي مؤتمره الصحافيّ حتى اكتسب الاسم الذي سيعرف به في التاريخ، إذ أصبح وسم بوريس الجزّار الأكثر تداولاً على تلك المواقع – وربما كان يليق به وسم بوريس “باشا الجزار” نسبة إلى أصوله التركيّة – وغلبت التعليقات المحمّلة بكثير من السخريّة المرّة وخيبات الأمل والشعور بالخذلان على (التايم لاينز) الإنكليزيّة، فيما تلقت مجموعة كبار السنّ – التي كانت بيضة القبان في إيصال جونسون إلى السلطة – تقريعاً شديداً لانتخابهم الرّجل الذي لا يمانع الآن في الخلاص منهم سريعاً، معتبراً إيّاهم عبئاً يثقل كاهل البلاد.
الاستراتيجيّة الجونسونيّة المتهافتة لم تسقط رغم ذلك بسبب الضغط الشعبيّ هلعاً في الأسواق وغضباً على مواقع التواصل، بل بسبب عودة مستشاري الرئاسة عن توقعاتهم المتفائلة بشأن أعداد الوفيّات (المقبولة) بعد أن أعلنت أهم مدرسة طبيّة في لندن (إمبريال كوليدج) عن توقعها حال تفشي الوباء خلال الأسبوع المقبل حدوث أكثر من 25 ألف حالة وفاة في وقت سريع. وهكذا تغيّرت الاستراتيجيّة سريعاً نحو إغلاق للمدارس والكليّات، وتقليص فرص تعاطي الموظفين مع المواطنين، ونصح المواطنين بعدم السفر لغير الضرورات القصوى.
إعلام بريطانيا تابع أمين
للسّلطة “الثانيّة” كما دوماً
في ظلّ هذه الأجواء بقيت التّلفزيونات البريطانيّة (بما فيها “بي بي سي” المؤسسة الإعلاميّة الوطنيّة الكبرى) صامدة في مواقعها (الدّائمة) على يمين رئيس الوزراء، وتابعة ذليلة لتوجيهات حكومته – “السلطة الثانية” – مستقيلة تقليديّاً من دورها كـ”سلطة رابعة” مهمتها مراقبة ونقد السلطات الثلاث الأخرى التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة.
وهذا ليس بالأمر الجديد في هذا البلد، الذي اخترع الديمقراطيّة البرلمانيّة، إذ أن الإعلام الجماهيريّ البريطانيّ – على اختلاف أدواته مسموعة ومقروءة ومرئيّة – في غالبيته السّاحقة يمتلكه حفنة من الأثرياء الذين يقفون موضوعيّاً وذاتياً مع اليمين الحاكم، ويدافعون بشراسة عن مصالح القلّة المهيمنة وعلى حساب الأكثريّة. فيما أظهرت “بي بي سي” انحيازاً سافراً لجونسون وفريقه حتى أثناء الانتخابات العامة الأخيرة وقبل وصوله إلى السلطة، فكيف اليوم وهو الملك المتوّج على رأس السّلطة التنفيذيّة.
دولة الأثرياء عارية: النيوليبراليّة
التي أكلت الأخضر واليابس
الذّي تجنّب الإعلام البريطاني ذكره هو حقيقة أن دولته بعد أربعة عقود من تبني سياسات تاتشر – النيوليبراليّة – أصبحت مجرّد قشرة خارجيّة تكاد تكون فارغة من المضمون، وسلطة غايتها حماية مصالح الأثرياء والسّرقة المتدرجة لمكتسبات الأكثريّة التي حصّلتها بالدّم والعرق وتضحيات ملايين الشّبان في الحربين العالميين.
وهكذا تقلّصت التّقدمات الاجتماعية إلى أدنى مستوياتها، حتى دفعت ملايين البريطانيين تحت خط الفقر، فيما تعرّضت هيئة الصحّة الوطنيّة إلى حصار حكوميّ أضعفها وحدّ من قدرتها على توفير الخدمات المجانيّة للمواطنين تجهيزاً لبيعها إلى رأس المال الأمريكي وتحويل البلاد لنموذج الولايات المتحدة الصحي، حيث ربع السكان لا يمتلكون أيّ شكل من أشكال التأمين الصحيّ، وهم عرضة للموت المبكر لعدم قدرتهم الحصول على العلاج حتى من أمراض بسيطة، فيما تحوّل قطاع كبير من المدارس العامّة إلى أكاديميّات تعمل بمنطق الرّبح والخسارة، وما لبثت تتمدد وتبتلع المزيد من تلك المدارس، ناهيك عن إطلاق الباب للمدارس الدينية التي تفرض مع التعليم قناعاتها العقائديّة. وفوق ذلك كلّه، فقد البريطانيون الفقراء فرص امتلاك منازل خاصة بهم بالنظر للإلغاء المتدرّج لنظام الإسكان العام، وتحوّل أكثر من عشرين مليوناً من العائلات إلى مستأجرين عند الأثرياء في ظل قانون إيجار ينحاز لمصالح المالك على حساب المستأجر.
وهكذا في مواجهة كورونا، سيخسر ملايين الأجراء أعمالهم أو جزءاً منها دون الحصول على ما يكفي من تقدمات ليقيموا أود عائلاتهم، وستقف هيئة الصحة الوطنيّة عاجزة إذا وصل عدد الإصابات حد الوباء، ولن تكون المدارس بقادرة على تنظيم دروس بديلة للتلاميذ عن بعد، فيما سيجد ملايين المستأجرين أنفسهم وقد طردوا من بيوتهم لعجزهم عن تسديد بدلات الإيجار بانتظام.
كورونا، كشف عري مملكة الأثرياء، وصفع فقراء هذا البلد – خامس أهم الاقتصاديات العالميّة – الذين استمروا طوال عقود ينتخبون حكومات تعمل ضدّ مصالحهم. لقد أكلت النيوليبراليّة الأخضر واليابس، وتركت البلاد خواء في وجه الريح.
وسوم: العدد 869